للموت سطوة وسلطة بالغة من الجهارة تنطوي على مفارقات عدة. مفعول جرعة لا تخطئ الهدف مهما فعلنا، وابتدعنا من حيل؛ فأمر الله نافذ. تلك حقيقة لا يمكن نسفها، ولكنها أقرب لأن تفلسف وتوضع في قالب يحمل داخله عدة أوجه. أن تموت يعني أن تحيا على الأقل في دائرة حزمة زمنية متآكلة بفعل سيرورة وصيرورة الحياة التي لا تنفصل عن مسارها الأخير الذي نجهل كنهه. ما بين الميلاد والموت رحلة من قبضة الوقت المتلاشي لا يمكن وضعها في حيز السرمدية طالما ينقضي أمدها بفعل مشيئة الخالق سبحان الله تعالى. لعل الحكي واحد من القوالب، ليس بالطبع نافذ إلى لب ما وراء الموت، التي تتيح لنا التجول بخفة الريح لسبر عوالم ماذا يجري هناك في البرزخ أو النهايات التي لا نعرف أصلها، ولا نستطيع أن نقف على حقيقتها إلا من خلال جدلية الحياة والموت. فالتحليق عبر الخيال ملكة لا يمسك بمقودها إلا القليل من أصحاب الحنكة والدُربة والمهارة والحذق الذي يجعل من الموت سيرة حياة ورائحة لا تزول أبدًا من أكتاف الكون لطالما يصنع شخصياته ويعرضها لتجربة الموت مرتين في رحلة حياة شاقة ومعربدة بصنوف العذاب. فالموت الذي يأتي عبر مصاريع سبل كسب العيش، وظفه الكاتب الممشوق العبارة، منصور الصويم من خلال الأدب في حكاية واحدة وإن تعددت حكاياتها في رقعة مكانية وزمانية واحدة من الوقت الحاضر.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

ما انفككت كلما قرأت للروائي منصور الصويم حتى وجدت دوائر جهلي تنداح وتتفكك على نحو يتسع للجدل حول صموده وصعوده المتدافع في فن كتابة الرواية. لا أبالغ بل أزيد أنه موعود بعمودية الرواية في بلد يفيض بالرواة، لو أسند باله إلى الأرض الخصبة التي يقف عليها. فخصوبة النص وتناسله بيده الواحدة لا غير. ولا أظن أنه في حاجة لعون من يفك أغلال ذاكرته المتألقة طالما يرتوي من معين خيال خلاق سيجعل منه رقمًا كبيرًا في دروب الحكايات. اشتراطات السرد عند الصويم تخضع لذائقيته قبل كل شيء محاصر في أنساق فن الرواية المعروفة أو حتى التجريبية منها، إذ تجده يغوص ببصمته المستنيرة ليضع الرؤية في تجلٍ بعيدٍ وذوق رفيع لا يشبه فيه إلا نفسه التواقة إلى كسر رتابة النمطية السائدة في الحكايات المسرودة. هكذا تجده مشبع بالإمساك بخيوط الغواية والتسرب في داخل النص كراو عليم تارة، وتارة أخرى يستعيض عن ذلك بآخر، وهو في ذات الوقت محيط بالخبايا التخيلية التي استلهمها من الواقع المعاش. فاشتغاله على المهمشين في خرائط الأرض المختلفة هو شغله الشاغل في معظم رواياته وقصصه؛ فهي وجهة نظر ثاقبة تتحالف مع الإنسان والحيوان والحجر، امتطى عبرها عباب الكلمات ونسج حلة زاهية من نضار السرد الفخيم وذلك من خلال بصيرته الشفافة والثاقبة. في روايته (عربة الأموات) الصادرة عن دار مسكيلياني التونسية في طبعتها الأولى 2016م، ضمن سلسلة سرديّات عربّية، يتحرش النص بالمقدس والمدنس في بيئة مدن الديانة الإبراهيمية وحقول النفط دون وجل، وهي تتجول بين سوح وبطون القصور والأودية التي ما زالت تسيل بحكايات التاريخ الإسلامي القديم وصولًا للراهن المتخم بما فاض من (البترودين). جاء الصويم هنا في سردية (عربة الأموات) متعقبًا الروائي الفذ عبد الرحمن منيف في سفره العميق (مدن الملح) الذي أزاح بفعله المتراكم الكثير عن طبقة هلامية وصلبة في آن، تغطي على عسف أثرياء الزيت حتى عرى الوالغين في سرد ناعم وخفيف الظل حتمًا سيبهر قراء الرواية. فالروية تنبش في خفايا لعنة الثراء الذي أعقب ثروة النفط حين سالت وتدفقت وصنعت قيمًا سالبة تستقوى بالمال كسلطة ماكرة وباطشة حتى جاء عهد رق جديد يكبل خطى العمال القادمين من بقاع العالم بحثًا عن ما يسد الرمق وحياة كريمة فقدوها في أوطانهم التعيسة والطاردة. كل الذي يكتبه الصويم تسكنه حسية بالغة الدقة في الوصف ويلحظ ذلك في رواتيه (ذاكرة شرير وآخر السلاطين)، وهنا المفارقة تأتي كأنها محاولة توطين شخوص فيما يطلق عليه رواية الخارج القادم من حدود أخرى قطعا ليس أرض موطنه الأصلي، كما غاصت الكثير من روايات المهجر من خلال ثنائية معقدة، تجدها أوضح عند الروائي طارق الطيب في روايته (بيت النخيل)، والروائي عبد العزيز بركة ساكن في روايته (الرجل الخراب). شيءٌ لا بد من ذكره، وأنت تتوغل في عميق النص، فالكلمة تحارب كما البنادق ضد وحش الرأسمال وفحش الذين يسرقون موارد الشعوب، لذا جاء النص متخففًا من ثقل الخطاب العقائدي المتصلب والموجه نحو غايات تحلق نحو الشعبوية في مناخ أخيرًا أفرز ظاهرة الربيع العربي التي تلت حقبة طويلة من الحرب الباردة التي استعرت من قبل المعكسر الغربي والشرقي في رحلة نالت منها العديد من الشعوب الأذى بفعل الصراع الناشب حينها في ظل الاستقطاب الحاد الذي ساد العالم دون رحمة وشفقة بحثًا عن مكاسب اقتصادية فيما وراء الفعل السياسي الظاهر. الكاتب الصويم على يقين بأن كلمته مؤثرة وسيخوض عبرها معركته المستمرة والشرسة ضد خلايا الشر المتجذرة في المجتمع. في داخل النص في خط زمني مستقيم، ينزع بدقة إلى وصف معاناة العمالة الأجنبية وما تتعرض له من سوء معاملة وحالات الإتجار غير الإنسانية، والتي تنحدر من أعلى مراتب المجتمع نحو أسافله. حكاية بسيطة للغاية عن حاضر رق الوظيفة. عامل في بلد الغربة ينقل الجثث للمقابر وجد نفسه في مأزق لا يحتمل خفة العقل. جثة خادمة عادت للحياة وهي في طريقها للدفن. توالت المصائب لأنها لا تأتي فرادى، واخترقت عظم الجميع. توحد الأصدقاء لإنقاذ العامل من الورطة حتى وجدوا أنفسهم جميعًا في وضع محرج جلب الشقاء لهم، ليقرروا بسرعة مع جثتهم الحية ويدبروا أمر الفرار من بلاد الغربة والعودة إلى أوطانهم. وقد كان. فتفاصيل الحكاية تدور بين أربعة أصدقاء جمعتهم الدراسة بالسودان والذكريات التي تقاسموها آخر اللحظات وهم يهمون بمغادرة البلاد، كما جمعتهم الظروف مرة أخرى في مرافئ وغياهب الغربة اللاهبة في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية كل منهما يعمل في وظيفة مختلفة عن الآخر، الموظف الصادق سليمان مدير العلاقات العامة في قصر الشيخ صالح ابو طلال، السائق فضل الله في عربة الأموات التابعة لمقابر الموتى، الطبيب مكي الفكي نائب الاختصاصي في مستشفى الشفاء بشرق الرياض، والصحفي أيمن فخري، محَّرر الموقع الإعلامي للمكتب الخيري العالمي للدعوة والإرشاد، بالدائري الشرقي. عاش الأصدقاء في كنف الغربة وصعابها ينتقلون بصعوبة في أعمالهم وفي خضم سوق عمل لا يوفر لهم الكثير من الحقوق حتى داهمتهم ظروف مختلفة، والتقوا فيها بشخصية (روز الإثيوبية) القاسم المشترك بينهم؛ الجثة التي عادت للحياة بإشراق وأمل، ومن ثم جمعتهم في رحلة عودة أبدية لبلادهم بعد حياة شقاء وكبد ومعاناة. الموظف الصادق سليمان في قصر أبو طلال، شهد ووقف على نتانة ما يجري داخل قصور الأثرياء وكل تفاصيل الليالي الحمراء وكيف تدفع فيها مؤخرات الغلمان المختارون بعناية فائقة الدقة، للرقص المحموم في حلبة جنس مفتوحة إرضاءً لنزوات بعض أفراد قبيلة الجنس الثالث من الإنسان. حفلات التفاهة الإنسانية في أبشع صورها وخذلانها وبؤسها وحيوانيتها حتى يجد البعض نفسه متوغلًا في متاهة تؤدي به في الغالب للإنتحار كما غاب عن الدنيا الغلام متوكل عبد الرحمن. وعلى رأس مؤسسة قوم لوط المواطن المتخم بساقط فوائض قيمة النفط، الشيخ أبو طلال حيث يسنده عدد من الأفراد الأجانب من جنسيات مختلفة مثل أحمد عبد المجيد هلال مدير شؤون القصر، فريد محمود كبير شواذ القصر وقوِّاديه، بيتر جون المستشار الأمريكي للشؤون التجارية في القصر، الموظف الصادق سليمان مدير العلاقات العامة، معتصم خليفة مشرف التموينات والأغذية ومسؤول الحسابات في القصر، معاوية إبراهيم طبيب القصر الخاص، جعفر رامز قهوجي مجلس الشيخ، وغيرهم من دفعتهم الظروف للعمل في ظل هذه الأوضاع البائسة.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

عاش الموظف الصادق منحازًا إلى رغباته في أغلب الوقت حتى وجد نفسه متورطًا في علاقة عابرة مع راقصة أجنبية قادته للسجن داخل أقبية القصر مما صعب من مسيرة استمراريته في العمل إلى أن لقى نفسه مغادرًا ليس مع مجموعة الأصدقاء في عربة الإسعاف التي شقت بهم فيافي البلاد نحو بلاد اليمن ومنها للسودان. فالصادق عَبَرَ البحر الأحمر من ميناء جدة الإسلامي إلى السودان. أما السائق فضل الله في عربة الأموات التابعة لمقابر الموتى، وجد نفسه مصلوبًا بين أفخاذ جثة صعدت من موتها للحياة فجأة بعد أن جُهزت للدفن مع أربعة جثث أجنبية؛ فالجثة الأولى لوافد فلبيني الجنسية اسمه شيخ محمد كو توفي في حادث مروري، والثانية لمطلوب، والثالثة لإثيوبية مسيحية، روز كريك مكياس فارقت الحياة في حادث مرور، والأخيرة لفلبينية، خادمة هاربة مجهولة الاسم، وانتقلت في حادث مرور. وعادت روز مكياس للحياة وفي ذات الوقت ادخلت فضل الله في دوامة من الحيرة لم ينقذه منها إلا عون الطبيب مكي الفكي حتى غدت في كامل صحتها ومأزقها الحقيقي، كيف تغادر البلاد أو تعمل فيها من جديد بالتوازي مع مشاكلهم جميعا إلى أن اهتدى فضل الله إلى حيلة تجعلهم يغادرون بكل سهولة إلى داخل اليمن بمعاونة اليمني الجنسية، حارس المقابر إلياس، والذي بدوره ليس فقط جزءًا صغيرًا من مافيا تتجر في المخدرات إنما ترس كبير في دائرة توزيعها وتسويقها، وكاد فضل الله أن يسلك مسالكها بعد العرض المغري الذي يسيل له اللعاب حتى استطاع بذكاء أن يحوله إلى عرض هروب مستفيدًا منه لصالح المجموعة. الطبيب مكي الفكي، نائب اختصاصي أول في الجراحة العامة وجراحة المسالك البولية بمستشفى الشفاء شرقي الرياض، لم تعزله ظروف العمل عن الالتقاء بالأصدقاء في منزل فضل الله عند نهاية كل أسبوع أو أجازة ما. وربطته علاقة عمل وحب بزميلته الممرضة الفلبينية آن صموئيل، وتسببت تلك العلاقة في ابتعادهم عن بعضهما بفعل جماعة السلطة الدينية. الممرضة آن غادرت إلى بلادها، والطبيب مكي أوقف عن العمل حتى وجد نفسه في عربة الإسعاف ناحية الحد الجنوبي مهرولًا إلى بلاده، بعد أن نسجا أمالًا عريضةً للهجرة خارج محيط الشرق الأدنى والأوسط، لمواصلة إرتقاءهم في المهنة وشغفًا في حياة أفضل تسودها الرفاهية وتوفر حقوق الإنسان. ويكمل الصحافي أيمن فخري، محَّرر الموقع الإعلامي للمكتب الخيري العالمي للدعوة والإرشاد، بالدائري الشرقي، رباعية الصداقة. الصحفي أيمن رست سفينته على رمال الزيت، طافحة بغير ما يشتهي، بعد أن طردته الظروف الطاحنة في بلاده السودان, وظلت أوضاعه المادية كما هي متنقلًا من دين مالي لآخر، يرسف في أغلاله دون أي تحسن يطمئن به نفسه. كادت أن تخور قواه حين ترنحت خطاه في شبكة إعلامية موجهة لدعم نشاط (داعش) وفي ذات الوقت كواجهة اجتماعية لقوى تلهث خلف المال ممثلة في شخص مدير وصاحب مكتب الدعوة الخيري العالمي، الشيخ أبو عبد الله العمري. وعاش أيمن الأمرِّين؛ بين ضغط العمل وصاحبه الذي يريد أن يدخله في نشاط الجماعة الصغيرة، وزميله في العمل الاستاذ منتصر زين العابدين (أبو البراء السوداني)، المحاسب والسكرتير الخاص البديل للشيخ أبو عبد الله، الذي استشهد في بنغازي الليبية بعد أن فجر نفسه ضمن صفوف الدولة الإسلامية. وبين هذا وذاك من سيل المؤامرات وبيئة عمل لا تشبه قيمه وأعرافه علاوة على علاقته غير الشرعية بالأرملة السودانية، سمية تاج السر التي تقيم بحي غبيرا؛ كطوف نجاة مؤقت ومثبط لأشجانه. تخلل الحكاية ومشى بين أطرافها ونسيجها بمهارة طائر غراب؛ رسول الظلام والإرشاد والدليل والمحاكمات الصارمة، وكان بمثابة المراقب العليم، وهو فرخ لوالدين وُجد تائهًا في جبانة شمال الرياض، كما اتضح في نهاية الحكاية المفتوحة، والتي يمكن لها أن تكون ثلاثية أخرى تجمع شتات المغتربين بعد التوهان العظيم بين لجج صنوف العذاب والقساوة التي عاشوها بين بقع الزيت الملوثة بالدم والمسربلة بالفضيحة. كما يمكن لها أن تكمل حياة الغراب وأين أستقر به المقام حيث لم يحسم أمره حتى نهاية الحكاية، وكذلك زواج فضل الله بالإثيوبية روز مكياس التي ماتت مرتين؛ أولًا في حادث حركة أثناء تهريبها لعمل آخر، والأخيرة عند محاولة التخلص من أزمتها، إبان أحداث الإثيوبيين الأخيرة بالرياض بعد أن طاردتهم السلطات الرسمية أوان توقف مشاريع البناء العملاقة المتزامنة مع الأزمة الأقتصادية التي تمر بها المنطقة وما زالت. منذ الوهلة الأولى عند النظر إلى عنوان الكتاب، وانت في عجالة التصفح تحدق بلهفة، قد تتوغل وتظن أنك في أرخبيل (غربة الأموات؛ فالغين غياب، والعين عتاب للنظر الكليل) حتى وإن فرغت للتو من قراءة الرواية، يلازمك الشعور نفسه بنشوة لا أحد سيصادرها منك مهما ابتدع. فالأموات حقيقة عاشوا غربتهم كما نالوها وهم أحياء. على صراط غربتين مضوا مشيعين بالخوف والرهبة والاكتئاب وسياط سوق العمل اللاهبة حتى طفحت أجسادهم بالدمامل كما أرواحهم تصلبت. وفي تلافيف ظلام غربة الموت انضم الأصدقاء الأربعة للموتى الذين شبعوا مرتين موتًا، وإن جاء موتهم مرة واحدة حتى عبروا إلى بلادهم بأعجوبة، هربًا من غربة موتهم الأخيرة. لكنها متاهة (عربة الأموات) التي اختارها الكاتب الصويم دون أن يفرد مساحة للتأويل عند القارئ، مما يوقعه في تضاد مع أسلوبية السيميائي والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، كعنوان ناجح بمقاييسه حيث ينبغي أن يبلبل ذهن القارئ، لا أن ينير له الطريق، كما أنه يجب أن يشوّش على الأفكار، لا أن يحوّلها إلى قوالب مسكوكة. كما يقول الفيلسوف الفرنسي، والناقد الأدبي، والدلالي رولان بارت إن العنوان هو ثريا النص، بمعنى أنه يكثِف النص. هذا ما يخص عتبات النص، أما متنه السردي فقد فاض بمفردات أجنبية قليلة، وكأنه غزو ثقافي ولغة محتلة تفرض نفسها في بيئة لا تشبهها، ومفردات أخرى غارقة في العامية السودانية مما اخل بتراتبية مجموعة المفردات اللغوية الفصحى؛ فالأمر لا يشكل خطرًا أنما أضطراب حينما تزج بمفردات غريبة على اللغة الفصحى وإن تعددت مفرداتها بتعدد الأمكنة، فلكل أهل منطقة لغة خاصة بهم، وهي لا تخرج عن الإطار الدلالي للغة العربية. فالعامية تقصر النص على أهل اللغة المحكية فقط لا غير وبذلك يفقد النص جغرافيا أكبر مما يدخله في غياب وعجز في الانتشار لبراحات أوسع. بالطبع ما أراده الصويم لم يكن عجز لغوي أصاب قلمه الباذخ، ربما قصد منه مراعاة تبسيط الحوار للقارئ وتعزيزه بالواقع رغم أن الحكاية دارت في جغرافيا اللغة نفسها ومحيطها الأكبر. فلغة اليومي تدخل النص في دائرة أضيق، وتحيل الحكاية إلى نطاق التراث ودوائر التباسه. لا ضير أن جاء النص مغلق جله باللهجة المحكية مكتسبا بصمات المكان ورائحة الزمان حتى يريحنا من عناء تكبد مشاق توسيع الدائرة. وكمثال وردت تلك الكلمات: (جهاز كمبيوتر– أزرار كي بورده - الموبايل – بطانية نمرية – مشاهد اكشن – يا فردة – سَمبَلَة – شايف "الغراب" – دقيقة بس- تقدم يا عرص – يا مان – باي – كرو – الكليشيهات- الفيزا – هسس، اسكت خلاص – كوبي بوست –أين انت يا زول، لا فيس ولا واتس، لا رنة تلفون حرام – أغاني الجبجبة والهجيج - المولات – قامت قبل شوية تقول اصبر!- أمورهم ظابطة – اكسسواراته – فايلات)... الخ. على كل، حفلت الرواية بالتماسك اللغوي، وخطها الزمني المستديم والمستمر، وشاعرية وسحرية المكان، بالإضافة إلى نمو الشخوص في متوالية المتاهات التي عاشوها مع حيزها الزمني المغلق والمحدود. أفصح النص عن جغرافيا منطقة الرياض ومناطق أخرى داخل وخارج السعودية في سحرية باذخة، ناقلًا سردية المتن مع أبعاده الأخرى في تماهي تام مع الأمكنة لذهنية القارئ الذي تربع على سوح الخريطة بكل ثقة ليس متخيلًا فقط بل مشاهدًا لمسارات الرحيق وهي تتقطر فوحًا في دروبها الأثيرية؛ عطرًا وشذىً. وزار القارئ بعين فاحصة واستراح بين ساحات القصر، وأفياء مزرعة جنان الخير، وأحياء العُلِّيا، وكذلك غبيرا ومنفوحة (حاضنات بعض السودانيين الذين تقطعت بهم السبل وأضحوا أصحاب أعمال هامشية أو بدون عمل)، ومستشفى الشفاء شرقى الرياض، وأودية نمار وحنيفة، وشارعي الملك الفهد، والدائري الشرقي، حتى ما يختص بالموتى كان حاضرًا في مقابر المجهولين في مخرج 107، ومغسلة الموتى عند مخرج 24. وامتدت السياحة المكانية وعبرت الحدود إلى كافتريا أبو جنزير بالخرطوم مكان لقاء أصدقاء الأمس واليوم، وفي بنغازي الليبية نُصب مسرحًا آخر للموت العبثي.
حاكمت الرواية أفعال العنصرية وفيوضاتها المتنمرة تجاه الآخر المختلف أيًا كان بلده أو لونه أو مذهبه بغض النظر عن تعليمه ووعيه وإنسانيته في المقام الأول، كما أنها لم تستثن حتى المواطن المهمش أو القابع في عرق مختلف داخل الوطن الواحد والمشترك بين السعوديين جميعًا، ممثلًا في الإرث القبلي المسيطر على مشاعر وسلوك أهالي البلاد، حين هجموا على بني جلدتهم الدكتور خالد الزهراني، وقتله بالرصاص. هل نسيت شخصية الشيخ سعود الجديع، المشرف الأول على مقابر المجهولين وإمام الموتى! بالطبع لا، أوفره لقول آخر متعلق بهيئة دينية تقبض بتلابيب وخناق الناس؛ المواطن والأجنبي على السواء كسلطة ثانية بالبلد تتولى أمر المعروف والمنكر وضبط الشارع العام مما جعلها تصطدم بحريات البشر العامة. وتبنى الجديع بإعتباره عضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نصح فضل سائق الإسعاف بنزع طائر الغراب من على مقدمة العربة حيث يظن أنه مجسمًا أي صنمًا لا يجوز استعماله وهو في حكم الشرع نوع من الباطل وأعمال الشركيات. واقترب الكاتب في متنه من مؤسسة دينية لها وزنها في المعادلة السياسية في الداخل، مما وسمها بالسخط والضجر من قبل المواطنين والأجانب، علاوة على التأثير الناتج من الطبيعية القبيلة للبلد ككل على مجمل الأحوال الاجتماعية والنفسية وغيرها. واختصرت الحديث عن هذه البيئة الطاردة الإثيوبية روز، حين واست بقلق الطبيب مكي وقالت له بعد محنة إيقافه عن العمل: "هذي بلاد العطش، مافيها حب، والمرأة تقتل مائة مرة". بطريقة مهذبة دافعة للتساؤل والتفكير، عبر وعرّى الكاتب الصويم منطقة ألغام ثالوث "التابو" المحرم (الدين والسياسة والجنس)، دون أن يجرح مشاعر القارئ قبل المؤسسات الرسمية والشعبية الآنفة الذكر والمهيمنة على حرية الفرد والمجتمع. وكل سرد جنسي في داخل النص ينم عن أحقية في تضمينه بين فقرات المتن؛ فالمشهدية الجنسية جاءت جريئة في صلب العمل السردي ولم تشذ وتخدش الحياء وتقع في فخ الجنس كفعل إيروتيكي وقح، بل كشفت عن عورة المجتمع المتدثر اسميًا بقيم الفضيلة والعفة. (عربة الأموات) رواية تمور بعلاقات الكثير في مجتمع تتجاذبه تيارات التغيير الكبرى التي انتظمت المنطقة منذ عهد ظهور بقعة الزيت الطافحة على أرض الرمال الذهبية رغم التحديات المرهونة والمتقلبة بين سندان سطوة الميراث الثقيل وفقه الدين والسياسة كرافعة من جهة، ومطرقة وعى القبيلة وتعليمها وتحررها من عقال العادات الموروثة وأرثها المعوق. يبدو أن المشوار طويل للإنعتاق من الكثير رغم التغيرات الاجتماعية التي خلقتها حالة الرخاء المادي من جرأ فيوضات آبار النفط طالما حاجة كهان الكراسي متربصة بكل تحرر يطيح بعمامة الانتفاخ المادي التي يتلفحونها. ما تناولته الرواية بعمق، تتجذر شعيراته عميقًا في تربة المجتمع الخليجي القبلي والسادر في غيبوبته بل في كل مجتمعات العالم المأزومة برمتها، والواقعة عن عمد وجهل في فخ العرق واللون. من الناحية الاقتصادية؛ دوافع الوافدين في القدوم لهذه البلاد، والتي ارتكزت عليها الرواية في بنية السرد، يمكن القول إيجازًا إن التباين ما بين بلاد الوافدين وبلاد النفط ليس شاسعًا في الموارد وفقرها، بقدر ما كبيرًا ومتفاوتًا في الموارد المالية وليس البشرية والأخرى. إذا نظرنا إلى القدرات التعليمية والعملية والمهارية والفنية التي يتمتع بها الوافدين علاوة على أن الأرض التي غادروها بسبب البحث عن الوظيفة خلفوا فيها ثروات هائلة من أراضٍ زراعيةٍ وموارد غابية ومائية وطبيعية ومعدنية وحيوانية. لكن إنها أقدار السياسة وسلطة الكرسي الحاكم الذي لا يأتي إلا بالحكام المعتوهين والواقعين تحت مظلة السياسة المالية العالمية وصاحبها القطب الأوحد؛ الولايات المتحدة الأمريكية. لا أحد يشذ عن فلك وحراكها إلا ولقى نفسه مركولًا في مؤخرته ومتدحرجًا تحت أرجل الجماهير المغبونة والغاضبة. من المعلوم أن بلاد النفط تطفو على موارد الزيت الذي سنضب ذات يوم ما عكس بلاد الوافدين صاحبة الموارد المتجددة. باختصار، قدم الروائي الصويم عملًا فنيًا استطاع أن يخترق عوالم القصور الخفية والشاذة وسوق العمل والانتهاكات التي تمارس ضد خدم المنازل، والنعرة العنصرية التي تشكل بنية المجتمع وفي ذات الوقت قدم نقدًا مبطنًا لهيكل دول الوافدين دون الخوض في أسباب بحث الوافدين عن العمل في بيئة صادمة ومغالية في الاستعباد. كاتب مثل المنصور الصويم، جدير بمثابرة القراءة لطالما يثق في حصافة قارئه، لذا لا يمكن معه أن تتوه في منزلقات متعرجة وحرجة؛ فهو حريص على موته كمؤلف، تاركًا مهمة فهم وإعادة قراءة النص لغيره، مكتفيًا بمهنية الإبداع.

الرواية نت - خاصّ.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم