خلافًا لكل ما يستحق أن يكتب عنه المرء، فيقرظ ويثمن، وهو ما تمتلئ به رواية «سبايا سنجار» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) كأن يكتب، وأظنني سأفعل لاحقًا، في القريب العاجل، عن عمل المخيلة الجامح الذي يصل لحد الغرائبية المطلقة، واللغة الشعرية المعروفة عند (سليم بركات)، الذي قدم بعدد يكاد لا يحصى من المجموعات الشعرية واحدة من أهم اقتراحات القصيدة العربية الحديثة، إن لم تكن، في رأي بعض، أهمها على الإطلاق.

وعن الحوار المتعدد الوجوه والمستويات، بين (سارات) الرسام السوري المقيم في «بيت اصطياف» على شاطئ بحيرة (أودن) في (السويد)، وشخوص الرواية المختلقة منها، مثل الفتيات الأيزيديات الخمس، ومقاتلي الدولة الإسلامية الأربعة الذين يظهرون له مطالبين برسمهم في لوحته القادمة، والشخوص الواقعية الأخرى ومنها: (ناتالي) زوجة (سارات) السابقة وصديقها و(يستروم)، والرسام الأرمني – السوري (خاتشيك) الذي يجري معه مكالمات هاتفية طويلة من مكان إقامته في (فنلندا)، وآخرين ممن يحتك بهم (سارات) في حياته اليومية، وغير ذلك مما يحمله السرد على ظهره، من حمولات واقعية وفنية وتخيلية، أقول خلافًا لكل هذا، هناك ما يمكن أن يطلق عليه: (الخطاب السياسي).. وهو بحق يحمل سمات الخطابة، الحماسية والتقريرية… والتحريضية. سواء من ناحية الثوب الذي ترتديه اللغة، أو من ناحية الجسد الذي تتقمصه، أو الروح التي تتلبسها.

ويزيد في حدة هذا الاختلاف كون هذا الخطاب الشعبي يقوله فنان، منفي، في صقع من أصقاع الأرض، يستيقظ وجسده موشوم بلوحات «أساطين قنص اللون، وترويض المعاني» (ص:7)، موجود في الأصل في مجلد طوله ثمانون سنتيمترًا وعرضه خمسة وأربعون، مركون إلى الحائط واقفًا. يحيا عزلته بعيدًا من كل شيء، ملازمًا بيته، لا يخرج منه إلّا نادرًا، للتسوق من المتجر، أو لتجرع قدح من الجعة في الحانة: «عشت العزلة… ليست بي رغبة في المحادثات متماسكةً، مستقيمةً وواضحة» (ص: 55). فإذا به متعلق، متعشق، أو لأجترح كلمة أكثر تأثيرًا، متمعشق، بما يجري من أحداث في سوريا (بلدي)، كما يدعوها مرارًا وتكرارًا، دون كلل: «… من كان يفقد ذراعًا، في قصف، كنت أهديه ذراعًا من أذرعي الكثر على صحن من اللوعة، ومن يفقد رجلًا أهديه رجلًا من أرجلي الكثر، ومن يفقد عينًا أهديه عينًا من أعيني الكثيرة، ومن يفقد عظامًا أهديه عظامًا، ومن يفقد رأسًا أهديه رأسًا من رؤوسي الكثر» (ص: 14- 15). مجيبًا قاتل هرة الجيران الذين سبق وطرقوا بابه وهم يحملونها ميتة، ملمحين لاحتمال أن يكون هو من قتلها: «بعد أكثر من ثلاثمئة ألف قتيل، ومئات آلاف من السجناء، والمفقودين، وملايين النازحين واللاجئين هربًا من المجازر، في بلدي، لم يتصل أحد بشرطة النجدة…» (ص: 157). لا يفوته أي تفصيل، فهو عارف بنوع ساعة اليد النفيسة (ص: 41)، الفخمة للخليفة الجديد، منتحل اسم أول خليفة في الإسلام، (ص: 70)، ومطلع على حيثيات (جهاد المراقد)، و«ما تكشف من التبرير المبتذل، الدموي، المذهل في قذارته» (ص: 99)، كما أنه متابع لهوايات (بوتين)، «سليل راسبوتين، القيصر الروسي المتحصن بفنون الجودو والكاراتيه» (ص: 113)، فيورد حرفيًّا تصريحه: «مكنت الحرب السورية روسيا من تجربة أسلحة، وتقنيات حربية كثيرة، لم يكن من الممكن اختبارها في ظروف أخرى.. كانت فرصة نادرة» (ص: 379).

ثالوث شيطاني يمزق البلد إلّا أن هذا التمعشق يتبدى في أشد صوره حدة وصراحة دون أدنى تذويق، من خلال آراء (سارات) النارية، تجاه الثالوث الشيطاني الذي يمزق بلده، وتحار في تحديد رأسه من قلبه من جسده، 1- (الحاكم العلوي)، الذي لا يسميه باسمه قط، «سارق بلدي»، 2- (بوتين)، «لقيط ستالين». 3- (الحاكم الشيعي)، «الولي الإيراني»، «المبشر بالخراب». ضامًّا إليهم (حسين أوباما)، «الأميركي المشؤوم»، «… كمال مذهل في اللاأخلاق.. ترك ملايين البشر غارقين في يأس التاريخ.. منذ مقتل أطفال مدينة درعا». من دون أن ينسى (رجب أردوغان): «قلب، بفطرة العجرفة القاصرة، حدود بلدي على رؤوس السوريين بفتحها لوحوش الجهاد.. بالحسابات الخطأ لأشباح العثمانيين».

ولكن بعد كل هذا يضيف: «كثر جلبوا إلى بلدي بوابات ذهبية للجحيم». (ص: 14-15)، وهكذا تتوالى آراء (سارات) وأحكامه حول المشهد السوري السياسي والمذهبي، مستخدمًا الصفات الطائفية ذاتها كل مرة، وغالبًا المعاني والأفكار ذاتها، شبه المعممة إعلاميًّا، التي يبدو أن عملها، لا يزيد عن رغبة بركات في إعلان وتأكيد موقفه السياسي الحادّ من النظام الذي يحكم بلده منذ ما يقارب نصف القرن، وكذلك موقفه من طريقة تعامل العالم، الدول الفاعلة في الحدث السوري، والدول التي اكتفت بالتصاريح والبيانات، مع محنة بلده وثورة شعبه، حيث من الصعوبة بمكان محاولة تتبع جريان هذا السيل الجارف من الغضب والسخط، والفجاجة، التي، ربما، يراد منها أن تجاري، تطابق، فجاجة المشهد نفسه، على نحو محدد وواضح، كتقسيمه إلى أجزاء، أو تصنيفه حسب مضامين، ما يخص سوريا مثلًا، ثم ما يخص إيران، ثم روسيا.. وهكذا؛ لذا ارتأيت أن آتي بالأمثلة كما هي، مع أرقام صفحاتها، دون أن أُعلق على أي منها، إلا على بعض النقاط بصورة استثنائية، فكل ما يمكن أن يقال عنها، تقوله هي بنفسها، كالآتي:

ص18: «… منذ استحدث الحاكم بلدي العلوي، في خمسة عقود إذلال البلاد، قاعدة تضاف إلى قواعد الشكوف الكبرى… أن أقصر الطرق أي الحكم بلا نهاية هو تدمير البلد»

ص20: «… لا مبالاة المقتدرين في أمم الأرض بمحنة بلدي أرغمتني على كراهية الكون: خذل السوريين في رغبة أبدوها، بعد عشرات السنين من نهب الوحش الحاكم أحلامهم، أن يكونوا سوريين بلا خوف…». ص39: «… آبار نفطهم التي تخلى عنها حاكمو بغداد الشيعة، ذوو الولاء للحرس الثور في طهران… واستدرج مقاتلي (دولة الخلافة) إلى امتلاكها حاكمُ دمشق العلوي…».

ص100: «… همشت سوريا. لا مكان، في الأذى الإيراني، لمعقول يعتمد… أقفل الشر الإيراني باب امتداح سوريا بلدًا، كما أقفل تابعه الحاكم العلوي باب امتداح سوريا كمكان كرامة قبل الإيراني الحليف في غايات المذهب المنتقم…». ص122: «… ولي الخراب الفقيه، المنكب على تصاميم للرؤيا الخراب تعجيلًا لظهور مهديه…». ص164: «… الولي الفقيه في زمنه كاليغولا الرائع… القذافي. صدام حسين. أسد سوريا الخالد، هم قناصلة كاليغولا الفخريون…». ص186: «… أما في مدينة تدمر التي أخلاها الحاكم العلوي من جنوده ليسلمها إلى جنود البغدادي تسليمًا حلالًا.. الحاكم العلوي في سوريا، والحاكم الشيعي في العراق أنجزا… ما ابتكره الولي الفقيه الإيراني من معضلات الرسوم على.. خيال الخراب…». ص221: «… حلف سنّي من العربان والعجم، خص نفسه بلقب (أصدقاء سوريا) مزق الثورة السورية، جرم اللحم عن عظامها ووزعه شواءً على فصائله الإسلامية وأمرائها. حلفاء الحاكم العلوي كانوا أكثر إخلاصًا: الولي الإيراني الشيعي، والقيصر الروسي القومي الأرثوذوكسي…». ص240: «… ما الذي فعله المشؤوم سليل الشؤم، حسين أوباما؟ أعاد للروسي هيبة المتوحش، وسخر وزير خارجيته.. ليكون حامل السراويل الداخلية الوسخة لوزير الخارجية الروسي…». ص246: «… سليل راسبوتين.. نبت قويًّا بسماد من روث أخلاق حسين أوباما… بمعاهدة مفتوحة مع حاكم سوريا العلوي…». ص263: «… أب روسي، لا إيمان له إلا بتبادله السلطة مع خادمه… أب حاكم علوي لا إيمان له إلا بعائلته وكرسيه، أب ولي الفقيه لا إيمان له إلا بشيعيته.. هؤلاء ملهمو الشيوعي العربي، واليساري العربي…». ص295: «… بلد غزاه الإيراني، والروسي بعقد مع الحاكم اشتريا منه كرسيه وأجلساه عليه. [وهنا حقيقة استغربت كيف لا يلحق (بركات) صفة العلوي كما في كل مرة، فإذا به بعد أسطر قليلة].. ذبح الروسي سماء سوريا، وهواء سوريا، ويقين سوريا باتفاق مع ذل الحاكم العلوي على تفصيل الوجود للسوريين على مقاس انتقام بوتين من حسين أوباما…». ص296: «… بلدٌ مقبضٌ ذهبي لمرحاض بوتين…».

المعضلة السورية

ورغم تتابع الأمثلة فيما بقي من صفحات الرواية، وإن بزخم أخف، أحسب أن هذا يكفي ويزيد للدلالة على ما ذهبت إليه، إلا أنه في (ص: 296) ذاتها، وتمامًا بعد السطر الأخير الذي نقلته لتوي منها، يعرض سليم بركات نظريته النهائية الشاملة عما جرى في (بلدي سوريا)، نابشًا في السبب الأصل، التاريخي والجغرافي للمعضلة السورية، ولادة وتكوُّن سوريا كبنية اجتماعية وثقافية وسياسية، دون أن يفوت ذكر العوامل والأطراف التي صنعت معادلة الخراب الأخيرة، منتهيًا بها إلى الوقوف عند مصيره الخاص، الشخصي، لأول وآخر مرة في الرواية، على أن أسمح لنفسي، مرة ثانية، بإيراد بعض التعليقات بالخط الرفيع المائل، عندما أجد ما يستحق الإشارة إليه:

«انتهت سوريا. انتهى بلدي، لربما كان منتهيًا قبلًا، لكنني تجاهلت ذلك، [ كما جميعًا فعلنا]، مؤمنًا – كإيمان غير مضمون في قلب كل فرد من هذا العالم – أننا نخلق دولًا باعتقادنا أنها دول. البعض يستمر في إيمانه حتى إشعار آخر، والبعض يواجه خيانته لنفسه في القبول بإيمان لم يكن إلا من اختراع التلقين، والخوف.

في الشرق الذي أنا منه ليست لنا دول حتى إشعار آخر.

بلدان مطهوة على عجل. بلدان نيئة. بلدان محترقة في الأفران. تلهَّى عنها الطاهي بلعب النرد مع خياله. [لا يمكن لقارئ هذا السطر إلّا أن يستعيد، اهتمام (سارات – بركات) بالطبخ، في صفحات عديدة من الرواية] انتهت سوريا.

لا شعب سيجمع، بحاصل الحساب في التاريخ، على الجغرافيا السورية بعد الآن: إنها حقد الأرض على نفسها أنها أرغمت أن تكون موضعًا لجماعات تلفيق في حاصل الجمع؛ حقد التاريخ على نفسه أنه أرغم أن يكون تاريخًا متجانسًا في التلفيق؛ حقد اللغة مشتركة، أو مفروضة اشتراكًا، في مناهج التعليم، على نفسها أنها لم تستشر في فرضها [وكأن (بركات) يدافع عن اللغة العربية للأسباب التي نعرفها عنه]؛ حقد النهار على نفسه من المعاني تقصره المعتقدات على اعتناقها، وحقد الليل على ما ألصقته به المعتقدات من شرور المعتقدات، لا من شرور الليل.

انتهى بلد على هذا القدر من السهولة: يستعمره غربيٌّ، ثم تستعمره عائلة الحاكم، ثم يستعمره ولي الخراب الفقيه الإيراني، ثم يباع إلى الروسي. بلد لم يولد؛ لم يكن بلدًا قط؛ لم يكن للهواء خيال فيه. بلد (احتمال) من أذله إلى أبده. لقد عشت فيه شبحًا. هربت منه شبحًا. ثم –على نحو غامض– آمنت به بلدًا. آمنت ببلد ميت، وُلد ميتًا، وهو يجرني معه، منذ ولدت، إلى عقاب الوجود فيه.

أنا مواطن الدولة الفراغ الآن. مواطن النهاية بلا أمل في شيء.

النهاية هي دولتي [كنت أفضل لو قال هنا (بلدي)]:

«أنا حرٌّ كالسخرية».

أنا حرٌّ كالسخرية!!.. لا أدري أي إحساس، لكاتب كسليم بركات، ورسام كسارات، أقسى من هذا الإحساس، وأي مصير أشد عدمية من هذا المصير.

عن مجلة الفيصل السعودية http://www.alfaisalmag.com/?p=6809

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم