«ليس هناك شيء مهم أقوله عن نفسي، كتبت قصة قصيرة حسب أنموذجي المفضّل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو مجلة وأقصر من أن يضمّها كتاب وأشد غموضا من أن يفهمها جمهور القراء العريض وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته» هذا ما تضمنته رسالة ستيفان زفايغ لصديقه هرمان كيستن قبل انتحاره بخمسة أسابيع، وهو يتحدّث عن روايته "لاعب الشطرنج" التي لا تتعدى صفحاتها الثلاثة والسبعين، حيث اعتبرها أكبر من قصة قصيرة وأقصر من رواية وفيها من العمق ما يفوق قدرة القارئ السطحي على سبر مكنونها. لم تكن تلك رسالته الوحيدة بل على مدى سنوات منفاه في البرازيل كتب ما فاق المائة والتسعون رسالة إلى أصدقائه يخبرهم فيها عن خلاصةِ حياته وهواجسه وآلامه وخذلانه المتعلق بالحرب العالمية الثانية واليأس المطبق والذي يترافق مع انهيار وطنه شيئاً فشيئاً وعن رغبته في الانتحار، ولم يكن الإنذار كاذباً فقد انتحر تحت وطأة هذه المشاعر المختلطة والمحبطة هو وزوجته بجرعةٍ زائدة من الحبوب المنومة بقرار مسبق ومشترك يدلّ عليه العناق. لم يدرك فايغ بأن هذه الرواية ستندرج تحت أدب الحرب، وأنه أخفق حين اعتقد أن القارئ لن يصل كنهها، فهي رواية تحمل في جوفها استمراريتها، ولكن ليس بسبب بساطتها بل لأن الحرب مازالت تجول في البلاد، ولأن لعبة الشطرنج يتم إسقاطها مباشرة على الحروب، مع أنها اللعبة البشرية الأولى التي تعتمد على الذكاء الخالص وعلى التخلص من استبداد الصدفة، بيد أنها بين خصمين ومختلفين باللون ولهما بيادق في المقدمة تدافع عن سيادة الملك وحاشيته، وفي النهاية هناك خاسر ومنتصر، كل هذا جعلها مقترنة بالحرب وآلياتها. بلغة الغائب التي تخللت الرواية منذ عتبتها الأولى إلى شخصيات الرواية القليلة جداً كالسيد ماك كونور المشاهِد والهاوي للعبة الشطرنج الذي يبذل مجهوداً لإقناع بطل العالم بمواجهةٍ ولو لمرة واحدة مع السيد “ب”، و الراوي– على الأرجح أنه كان يتحدث بلسان الكاتب- المجهول والخارج عن سياق المعرفة، والمقتصرُ وجوده على نقل الأحداث والحالات النفسية للبطلين عن كثب، استطاع الكاتب أن يحمل الحرب وتبِعاتها وجنونها واضطهادها إلى روايته ثم إلى قارئها بسلاسة سردية تتميّز بها أعمال زفايغ الكثيرة ذات الطبيعة الفلسفية في نقل الواقع تبعاً لآثاره على الشخصية. تبدأ الرواية وتتقدم وهي تعطي الأهمية الكبرى لشخصية زينتوفيك ذلك الولد الذي يقارب البلاهة وعديم القدرة على كتابة أو قراءة جملة واحدة وهو ابن بحار مات غرقاً، والذي لا يكاد يراه من حوله لهامشيته، لتحدق المصادفة ويبدأ لعبة الشطرنج ويفوز بها على خصمه ثم على مواطنيه ثم ينتقل إلى مدن ودول أخرى ليصبح بطلاً عالمياً، وحدّ هذه الأحداث نقع في شرك الكاتب الذي أوحى لنا أن بطل روايته هو هذا الكائن اللاإجتماعي الذي يقتصر وجوده على الرقعة. لنعود من باب السرد العادي إلى النَّفسِ المفاجئ الذي يشابه شهيق ما بعد النجاة من الغرق بظهور شخصية السيد "ب" على متن سفينة سياحية تتجه من نيويورك إلى بيونس آيرس والتي تقِلّ بدورها اللاعب العالمي المتعالي بنجاحاته المبهرة، وربما المختبئ خلف هذا الغرور من جهله في ما هو خارج عالم الرقعة، وتحصل المواجهة بينهما. لاعبٌ عالمي يعتمد على الفطرة والغريزة باعتبارها ملَكة، والسيد "ب" الشخص الغريب الذي يجرؤ على هزيمة هذا اللاعب المحترف، وهنا تبدأ التساؤلات عن وجوده ومهارته، لنكتشف لاحقاً أنه حقوقيّ نمساوي كان مقرّباً من الأسرة الإمبراطورية في النمسا وعلى اطلاعٍ بشؤونها المالية، يعتقله الألمان النازيون إبان الحرب العالمية الثانية، ويتم سجنه في فندق فخم في غرفة معزولة لا يصلها الصوت ولا الضوء، فيعيش فيها خارج الوقت والحياة، ليحصل وبمحض الصدفة من جيب المحقق على كتيّب صغير، تمنّاه روايةً أو شعراً أو كتاباً فيه عدد كلماتٍ لا تنتهي، ليكتشف أنه كتيّب لفنون لعبة الشطرنج ويتضمن مئة وخمسين شوطا من أشهر المواجهات العالمية، فيبدأ بقراءته لعشرات المرات ويحفظه عن ظهر قلب ليكسر الفراغ من حوله ويبدأ بممارسة اللعبة ذهنياً، ثم يحيل فتات الخبز إلى أحجار شطرنج ويمرّغ نصفها بالغبار المتبقي حول الجدران، ويبدأ بلعب الشطرنج وهو اللاعب والخصم، ومن هنا كانت مواجهته مع زينتوفيك مواجهة خبير. ثم وفي الجولات المتعاقبة يكتشف زينتوفيك نقطة ضعف خصمه وهو الانتظار، فيعبث بالوقت الفاصل بين نقلتين ويجعله ينتظر، ليفقد أعصابه وينهار بكلّيّته أمام الوقت والانتظار الذي ينقله إلى ذاكرة السجن والفراغ، هنا يتدخلّ الرّاوي وينهي المشهد ويقرّ بهزيمة السيد "ب" قبل أن يسقط صريع انهيار وضغط عصبي. باضطراب نفسي تحدث السيد "ب" عن تعذيبه بمعتقله (غرفة الفندق) بالعزلة، وبنافذة مفتوحة على جدار، وبغياب الحياة كاملة، كي ينهار ويعترف أثناء استجوابه وكان وحيداً مع انتظاره الذي غدا كابوسه الدائم، لننتقل نحن كقرّاء إلى حالة المعتقل وفنون التعذيب النفسي الذي لا يقلّ إيلاماً عن الجسدي، باعتباره يشكّل الحلقة المفرغة في شخصية الكائن السجين ليصل به إلى الجنون في كثير من الأحيان. من فتات الخبز المرتبط بالعوَز، إلى السفينة وهي حاملة الحدث الروائي المرتبطة بانعدام التوازن والابتعاد عن الثبات، نتأبّط انفعالات الرواية ومونولوجها الخاص في توصيف الحرب والإنسان الفاقد للأمل، ولغة القوة والضعف في فصام ذهني حاد ومستمر يحمل ديمومة الرواية وصلاحيتها إلى زمن لا متناه. "إن رجلاً عبقرياً ذلك الذي يركز كل تفكيره، خلال فترة طويلة جداً من الزمن، على هدف سخيف، كحصر ملك خشبي، في زاوية لوحة خشبية، دون أن يصاب عقله بالجنون". هامش: ستيفان زفايغ (1881-1942) كاتب نمساوي من أصل يهودي، حاصل على دكتوراه في الفلسفة، تمت ترجمة روايته "لاعب الشطرنج" للمرة الثانية بقلم سحر ستالة (عن دار مسكلياني 2017) بعد ترجمة أولى صدرت سابقاً بقلم "يحيى حقي".

عن مجلة الشارقة الثقافية - نوفمبر/ تشرين الثاني

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم