شكل القرن الثامن عشر محطة مفصلية في تاريخ الرواية بوصفها جنسا أدبيا حديثا. فقد نُظر إليها بوصفها أداة فعالة ضدّ معضلة الزّمن، وقوة علاجية يتسلح بها المبدع في سعيه لترميم هويته الموزعة عبر اللحظات والمواقف والأمكنة والتجارب الماضية. ومنذ تلك المرحلة والرواية تواصل مغامرتها بحثا عن الشكل الفني الملائم الذي يمكنها من التعبير عن العلائق الملتبسة بين الفرد والمجتمع، بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه بتعقيداته وأسئلته الحارقة. ومن المؤكد أن هذه الجدوى المتواصلة بلا انقطاع تحققت للسرد الروائي في وعي الأفراد والجماعات لإدراكهم أن ما من شيء أكثر تشتتا وتراكبا وحيرة من هوية كل واحد، كما أن ليس ثمة ما يصعب أن نحرزه أكثر من وجهنا في غياب مرآة تعكس صورته[1].

أما في زمننا هذا، وبسبب التحولات المتسارعة التي أفرزتها العولمة، تستأنف الرواية مغامرتها المبدّدة للالتباس والوضوح المعمي، ما جعلها تحظى بمكانة لافتة، ووضع اعتباري خاص لدى الكتاب والقرّاء، إذ تعينت بوصفها تلك "الذاكرة المفتوحة" التي تتجمع داخلها أزمنة متباينة، ووقائع غير متجانسة، وملامح وشخوص شديدة الاختلاف[2]. هكذا صارت الرواية بتشكيلاتها السردية والخطابية تتيح للفرد والجماعة إعادة بناء ما يسميه بول ريكور "الهوية السردية" التي يعانقها الإنسان عبر وساطة السّرد. إن هذه القدرة التأويلية التي تنطوي عليها الرواية والجسر الذي تشقه للنفاذ إلى حيوات الشخصيات، وسبر مناطقها الداجية، هي ما يمثل شاهدا حقيقيا على تلك الرّغبة اللّاتقاوم التي تستحثّ الفرد على الفعل الذي يتلمّس من خلاله كينونته، ويستكشف المعضلات التي يواجهها.

بهذا المنظور الذي يشدد على فاعلية الكتابة في مقاومة قهر الزمن بتيسير سبل البقاء فيه، أقترح الدخول إلى العالم التخييلي الذي تعرضه رواية "موت مختلف" للكاتب المغربي محمد برادة التي صدرت السنة الماضية في بيروت والدار البيضاء(2016) وتوجت هذا العام بجائزة كتارا في دورتها الثانية (2017). ومنذ أن أصدر محمد برادة روايته الأولى لعبة النسيان" سنة (1987)، تمكن من أن يرسّخ لدى قرائه والمتابعين لتجربته الروائية أفق انتظار خاصا حيال كتابة تنهل مفردات عوالمها من متخيلات وتجارب إنسانية واسعة تبلورت في خضم التبدّلات العميقة التي هدّمت اليقينيات والتصورات المغلقة، كما تحفر مفهوما للرواية لا يكفّ فيه الكاتب عن المغامرة بحثا عن الشكل الفني الملائم الذي يخلّص سؤال ما الأدب؟ من محدوديته عبر تغذية الرّهان على الكتابة التي تلتقط التفاصيل والأنغام المتنافرة، وتشخص الأسئلة الصعبة التي يواجهها الفرد في المجتمعات المعاصرة: أسئلة الخوف والارتياب، التاريخ الشخصي والتاريخ العام، الأنا والآخر، الموت والحياة، وكذلك الهويات القاتلة، والحلم بعالم يتعايش فيه البشر.

وإذا كانت هذه الأسئلة قد برزت بمستويات مختلفة في أعماله اللاحقة خاصة "الضوء الهارب" و"مثل صيف لن يتكرر" و"امرأة النسيان" و"حيوات متجاورة"، و"بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات"، فإن اشتغالها في رواية "موت مختلف" يبدو أكثر توترا وكثافة وشعرية، ما يمثل دعوة للتفكير في أبعادها الفنية والدلالية. من هنا نعتقد أن هذه الرواية ينطبق عليها مفهوم "الأسلوب المتأخر" الذي فكك به إدوارد سعيد تلك الأعمال الفنية التي يستحكم بمبدعيها هاجس الاشتباك مع الزمن وتمثيل الموت. منذ بداية الرواية، يلتقي القارئ بهذا الهاجس المستحكم ممثلا في الزمن والوجود اللذين يتمنعان على السبر والإدراك، ويدحض جريانهما بلا سبب معروف أية ثقة في إمكانية إدراكهما بالعقل. إذ يقول الكاتب في العتبة الاستهلالية الأولى "ليس الزمن سوى حاضر مؤلم، محمّل بالذكريات المقتحمة، الطاغية، فلا أستطيع أبدا أن أحذف صورة واحدة من حياتي... وحدها مشاهد قصيرة قضمتها مثل لحظات خاطفة، تسعفني على الانفلات خارج الحاضر، ومن ثم الانتباه الذي أوليه للعالم، واحتفائي باللقاءات العابرة والانطباعات الهاربة". وتزداد هذه المواجهة للزمن حدة حينما يسائل السارد الموت ومنحدراته وتقلباته حيث يقول: "ماذا لو أن الخالق منحنا فترة نقضيها متنقلين بين الموت والحياة؟ لنجرّب العيش في ذلك العالم الأخروي، ونتمكن من المقارنة لنكتشف فضائل الموت، فقد تكون له فضائل تفوق متع الدنيا العابرة". (الرواية، ص231).

تبدأ رواية "موت مختلف" بيوم منير الدبدوبي الأول في التقاعد بعد سبع وأربعين سنة من العمل في فرنسا بعيدا عن مسقط رأسه "دبدو" في المغرب الشرقي. يقرّر منير الذي كان يعمل أستاذا للفلسفة ومناضلا في الحزب الاشتراكي الفرنسي، بعد هذه السنين الطوال أن يبدأ في استعادة التفاصيل واللحظات والتجارب العابرة التي خاضها طيلة هذه الفترة، انطلاقا من قريته "دبدو" التي غادرها شابا، فيقرر العودة إليها وهو على مشارف الستين. ومن نافذة هذه الرحلة اللغزية التي يرتقي فيها محمد برادة بعملية تصوير المكان إلى منتهاها حيث لا تكون "دبدو" مكانا واقعيا ومشابها للحقيقة إلا لكي تسمح بتقديم عالم مثالي قادر على إعادة تشكيل العالم[3].

من نافذة هذه الرحلة إذا يستقصى الكاتب أسئلة شديدة التشابك والتعقيد والتداخل، يتقاطع فيها الشخصي والعام، التاريخ المحلي والوطني والعالمي، الواقعي والتخييلي، في شكل سردي لولبي يتكئ على السرد ومرموزاته وسجل الذاكرة لتجسيد الهوية الجمعية في صيرورتها وتحولاتها، واستكشاف ملامح المجهول الذي يسكن الإنسان ويثوي في أعماقه.

يتوزع مشهد الرواية على ثلاثة فصول هي: زيارة مسقط الرأس، في بلاد الأنوار، ثم كابوس مقيم. وإذا كان السرد في الفصل الأول يتم بضمير المتكلم، حيث الالتباس الذي يدثر علاقة السارد بالقرية التي ولد فيها ووصفها بأنها مرتع الطفولة وأيام البكارة، والتي كان يعزف عن زيارتها منذ أن وصل إلى باريس، يأخذ بعدا أكثر كثافة وشعرية، وتداخلا بين الواقعي والتخييلي، فإننا نعتقد أن استعمال السرد بضمير المتكلم ينهض ها هنا بوظيفة التذويت الذي يفسح المجال أمام تدفق المشاعر والأحاسيس ورؤية العالم المنبثقة من الأعماق الداجية. وبهذه الرؤية يحرّر محمد برادة الحواس ويقدح شرارتها واندفاعاتها ضد الأنساق النهائية والناجزة التي تشل في الإنسان القدرة على الشك والريبة والمساءلة. ويمثل هذا الأسلوب إحدى السمات المميزة لرواية ما بعد الحداثة التي تنهل من رحم السرديات الصغرى بخلاف الرواية الحديثة التي تكونت في إطار الإمبراطوريات المهيمنة ومتحت من متخيلها المسكون بالأنساق القومية المتصلبة والمغلقة. لنقل إن الروائي الذي كنا نظن أنه العارف الوحيد بأسرار العالم الذي يعرضه على القرّاء، صار اليوم لا يتردد في وضع كل شيء موضع مساءلة، بما في ذلك الرواية التي يكتبها ويواجه معضلة تحديد حاضرها، مما يتيح إمكانيات واسعة لتنسيب المعرفة ومساءلة علاقة الفرد بالمجتمع من خلال تدفق الأسئلة، والمواقف المغايرة.

في الفصل الثاني الذي يعتمد السرد بضمير الغائب، يتوغل السارد في تفاصيل ما عاشه منير الدبدوبي بفرنسا، التي التحق بها في لحظة تبلور التحولات التي كانت تعد بها انتفاضة الطلاب سنة 1968. وانطلاقا من علاقة منير بالطلاب في الجامعة، كجوسلين الباحثة في علم الاجتماع التي نسج معها أول علاقة حب وكانت منجذبة لطروحات بيير بورديو المجددة للفلسفة الماركسية، وألبير المثقف اليساري الذي عرّفه على كوليت كرنفال المهووسة بالعيش في ظلال "الحرياتية" التي دعا إليها بعض شباب انتفاضة مايو 1968، بالإضافة إلى كاترين المحامية التي ربطت بينهما علاقة حبّ في خضم النقاشات والجدالات الممهدة لانتفاضة الطلاب تكللت بالزواج فأنجب منها ولدا سمياه بدر. انطلاقا من هذه العلائق التي انتسجت بين منير الدبدوبي وهذه الشخصيات التي تلتقي في الافتتان باللحظات العابرة والإنصات للجسد، يبئر السارد النظر على التحولات التي شهدتها فرنسا منذ ثورة الطلاب أواخر الستينيات إلى الآن، متوقفا عند الآمال والأحلام التي قدحت زناد تلك الأحداث، وما آلت إليه الأوضاع من انحدار وتدهور تمثل في ظهور أفكار اليمين العنصرية والحركات الإسلاموية المتطرفة. يلتقط الروائي هذه التحولات من خلال صوتين يمثلان جيلين مختلفين، صوت منير الدبدوبي الذي تكون في أجواء الثورة وتفاعل مع الهزة التي أحدثتها في أناه الباطنية كما نهل من معين فكرها التحرري المعادي للسلطوية والهيمنة، وصوت بدر الذي فتح والده بصيرته على هذه القيم التي تجد سندا لها في فكر الأنوار، قيم الهويات المركبة المؤمنة بتعايش البشر رغم الحدود والمسافات واختلاف الثقافات والأديان، غير أنه عندما صار شابا، بدأ يشعر أنه يعيش في فرنسا مختلفة غير تلك التي تفتح وعيه عليها، أكثر تقوقعا على الذات وتوجسا من مواطنيها من أصول أخرى، خاصة الفرنسيين المسلمين.

يأخذ الفصل الثالث بعدا حواريا من خلال لحظة اللقاء بين منير وابنه بدر بعد إحساس الأب بما يشغل ابنه منذ سنتين من هواجس وأسئلة صارت تباعد بينهما وتؤثر على علاقتهما الحميمية. لذلك يمثل الحوار بينهما فرصة لتطرح الرواية قضايا عديدة تتعلق بالأنا والآخر، الهويات المركبة والمتصلبة، وقدر الثقافات المتعددة في عالم، من كثرة انتشار ثقافة الكراهية، بات صدره يضيق بالصور المتعددة للـ أنا، ولا يقبل سوى صورته التي يريد تعميمها على سائر الثقافات والمجتمعات. ورغم الجو القاتم الذي ترسمه تحليلات بدر للمجتمع الفرنسي بعد الهجمات التي تعرّض لها أخيرا، مما أدى إلى اتساع دائرة اليمين، وانتشار ثقافة الخوف والحيرة والشك والتغير الذي طاول سلوك الفرنسيين بالذين ليسوا من أرومة فرنسية، فإن الرواية تشدد على أهمية الإيمان بالمبادئ الأساسية وبقدرة الإنسان على مقاومة ما يحد من حريته واندفاعه. لكأن محمد برادة يؤكد من خلال هذا الحوار أن ما من سبيل أمام العالم للتغلب على صانعي الكوابيس الذين يتسترون بأردية دينية أو الذين ينتمون إلى كراهية عنصرية أو حقد إثني، أو الذين ينضوون تحت ألوية دينية متأسلمة، ما من خيار أكثر نجاعة وفعالية سوى الحوار والتفاعل اللذين يتيحان البحث عن رؤى متوازنة.

يتبيّن لنا إذا أن رواية "موت مختلف" تندرج في سياق كتابة متجددة تنحت موقعا خاصا بها، ليس فقط من خلال ما تنهض به من خلخلة للأعراف التقليدية في السرد والكتابة، وإنما كذلك من خلال ما تحفل به من رموز وإشارات، مما يدلّ على الطريق الصعب للوصول لفن روائي جديد يلامس الحقيقة في لغزيتها وتعقيداتها وتعرّجاتها. ونعتبر أن هذا الأفق الذي يرتاده محمد برادة في هذه الرواية يتجلى من خلال مستويين. أولهما يتعلّق بالشكل الفني حيث يبرز تفكير الرواية في ذاتها، واحتضانها لانشغالات الكاتب بالكتابة وجدواها وقدرتها على تمثيل الغرابة المقلقة التي تلف الوجود، وكذلك تكسير الحدود بين الخطابات والأشكال التعبيرية المغايرة، حيث تتخلل الرسائل واليومات والتاريخ المحلي والعالمي السرد بشكل يعمّق العلاقة بينهما، ويبرز دور الرواية في إضفاء الدلالات الإنسانية على الحدث. أما الثاني فهو مستوى الخطاب في أبعاده الاجتماعية حيث يتجلى ذلك التأمل الفلسفي العميق في التباس علاقة الإنسان بالزمن والوجود من خلال الشخصيات واللغات والمصائر المتعددة، بشكل يؤكد قدرة الرواية على إنتاج تلك المعرفة المختلفة التي تثري فهمنا لعالمنا اليومي والكيفية التي نواجهه بها، وذلك بعيدا عن الرؤية المثالية المتعالية.

[1] - جان- فرانسوا ماركيه: مرايا الهوية الأدب المسكون بالفلسفة، ترجمة كميل داغر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص:15.

[2] - محمد برادة: الرواية ذاكرة مفتوحة، دار آفاق، القاهرة 2008، ص5.

[3] - بطرس الحلاق: المكان والأدب في الرواية والمسرح العربي، في: شعرية المكان في الأدب العربي الحديث، ترجمة نهى أبو سديرة- عماد عبد اللطيف، المشروع القومي للترجمة، القاهرة2014، ص14.

عن "ضفة ثالثة" - العربي الجديد

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم