"الأرجنتين كان يا ما كان": خيانةُ التخييل أم خيانةُ السيرة؟
اعتاد الروائيون أن يؤكدوا في تصدير أعمالهم بأن أي تشابه بين ما كتبوه والواقع محض مصادفة، لكن الروائي الأرجنتيني أندريس نيومان (1977)، شاء أن يفعل العكس، ليستهل روايته "الأرجنتين كان يا ما كان" بـ"ملاحظة": "الشخوص الواقعية بهذه الرواية تظهر من منظور إبدعي، كما أن كل الإضافات التي توجد فيها تستهدف أن تبدو ممكنة الحدوث". ليس التأكيد على صلة الرواية بالواقع هذه المرة عبثاً، فنيومان يمثل أحد كُتَّاب أمريكا اللاتينية الذين وجدوا أنفسهم مطالبين بمقاومة وحش مهيمن اسمه الواقعية السحرية وسيقان ثقيلة من جيل "البومب" مغروسة في تربة القارة التي تعرف المُفارِق بنفس قوة معرفتها بالممكن. لذلك يذهب نيومان إلى التأريخ عبر العادي، متخذاً من المشاهدات العابرة والسير المتوارثة للأفراد الهامشيين عماداً لنصه.
في روايته هذه، التي حصلت على جائزة ألفاجوارا الإسبانية الرفيعة عام 2009 وصدرت مؤخراً عن الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة ضمن سلسلة "الجوائز"، بترجمة المترجم المصري د.علي المنوفي، يذهب نيومان بلا مواربة للتاريخ الشخصي، متكئاً على حياته ولا شيء آخر، ليقدم نصاً عموده الفقري السيرة الذاتية. رغم ذلك يحتل اسم البلد "الأرجنتين" واجهة النص، في مفارقة أولى، لكن المفارقة لن تلبث أن تكشف عن دلالتها، فواحدة من رسائل هذه الرواية الضمنية، أن الفرد يكتب عن وطنه، فقط، إن أجاد تأكيد فرديته فنياً.
يقدم نيومان روايةً سيرية، إنه في الحقيقة يكتب تاريخه الشخصي، والذي لم يكن حتى وقت كتابة الرواية قد تجاوز الثلاثين عاماً. سنٌ تبدو مبكرة على إلحاح الماضي لكاتب ما يزال لديه الوقت لاستقبال حياته. غير أن نيومان يمد خيط وجوده ليسرد تاريخه في ظل تاريخ الأسرة، بادئاً من أول جد معروف في الحرب العالمية الأولى وحتى نهايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فعل "التذكر"، الملتصق بالذاكرة الفردية، يحل محله بالتدريج فعل "التكهن"، القادر على استقراء الذاكرة الجمعية لأسرةٍ أو جماعة أو حتى وطن، عبر روايات "مُحرَّفة" بالضرورة وإن ادّعت الأمانة، وبهذه الطريقة يشق التخييل، كسكِّين، جسد نصٍ يوهم بتسجيليته. نحن إذن أمام رواية "تخمين" أيضاً، لا تقف عند حدود النص الاستعادي، بقدر ما تضع مجمل الحيوات في حوارية آنية، كأن التاريخ، إن وقع حقاً، فإنه يقع هنا والآن.
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
جداريةُ البقايا
يذهب نيومان للسيرة الذاتية مستوحياً أدبياتها بالكامل، فالسارد يحمل اسم المؤلف نفسه وتاريخ مولده، وكافة صفاته، ولا سبيل للتشكيك في حقيقية ما يُروى. يوهم السارد أنه لا يملك حتى القدرة على التحريف، محافظاً على الإيهام بوقوع كل ما يُروى، حقيقةً، قبل أن يتحول لنص روائي. غير أن السارد ما يلبث أن يقيم خلخلته لقوام الحكاية المتماسكة التي يقمها باعتبارها حدثت وليس فحسب واردة الحدوث. عندما يتعلق الأمر بواقعةٍ تحتمل حكايتين، سيذهب السارد مباشرةً للحكاية الأكثر إثارة للشغف وليس الأكثر دقة: "حقيقة الأمر أن لقب يعقوب، وهو لقبي الحقيقي، وليد خدعة. من المحتمل أن يكون هناك أحد الأقرباء البعيدين في أي جزء من هذا العالم ما زال يعرف القصة الحقيقية، لكنني أفضل الرواية التي سمعتها وأنا صغير، وهي المتعلقة بقصة خيانة مُناسبة وجُبن ذكي".
إن اللقب نفسه محض خدعة، هو لقب شخصٍ آخر، استعاره الجد لينجو، ولو كان حافظ على اسمه لهلك، وليبدأ السارد مأزق وجوده من هنا: المجئ للحياة بفضل لقب زائف، أو استحالة ذلك بالحفاظ على اللقب الحقيقي. أضاع الجد اسمه ليصبح هناك هذا الحفيد الذي يحتفظ بكنية شخص لم يورثه دمه. في الحقيقة لقد تخلى عنه من أجل تظهر للوجود ذات يوم مثل هذه الرواية. التشكيك في التاريخ، ونحن أمام عمل تأريخي في أحد وجوهه، يبدأ من هنا، ويستمر، فنحن أمام رواية تعيد مساءلة التاريخ في وحدته الأصغر: تاريخ أسرة عادية ينتمي لها فرد شاءت ظروفه أن يكون كاتباً. إذا كان التاريخ في محض اختبار بسيط يتوفر على هذا القدر من التزييف، فماذا عن التاريخ الجمعي الذي يحتل باترينته الأبطال الاستثنائيون والأحداث الكبرى؟
هل نحن أمام رواية أجيال؟ هل تتعلق "الأرجنتين كان ياما كان" بأهداب الملاحم "الأُسرية" إن جاز التعبير؟ أجل، لكنها لا تفعل ذلك بالمذاق العجائبي الاستعاري لـ"مائة عام من العزلة" مثلاً، بل تتعكز على الكنائي وتستمد نَفَسها من مفارقات اليومي والعادي والمبذول في تاريخيته "غير المقدسة"، باختصار، ما يمكن أن يعرفه الجميع وأن يعيشه الجميع. الأسرة هذه المرة لن تكون أسرة "بوينديا" بل أسرة يفترض أنها كأي أسرة، لم تؤسس مكاناً كماكوندو، لكن وجدت ذائبة في شوارع مدينة كبرى، هي هنا بوينس أيريس بقدر ما هي موزعة على بقاع أخرى من روسيا القيصرية لليتوانيا. إن "الأرجنتين كان ياما كان" تبدو، في أحد وجوهها، معارضةً روائية ما بعد حداثية لرواية الأجيال، تتعاطاها بخفة ولا تخلو من سخرية، وتعتمد المفارقات المتلاحقة لمحكيات صغرى تولد إحداها من رحم الأخرى، لتُشكِّل جدارية كبيرة مادتها البقايا.
تاريخ الكذبة التي ندعوها الذاكرة
الذاكرة هي بطل هذا النص ومحركه، وبها يفتتح نصه في مقطع مكثف يبدو أقرب لتوطئةٍ شعرية، تعريفي، لما يمكن أن ندعوه الذاكرة: "لماذا ستؤلم على هذا النحو؟ تؤلم عند العودة؟ أو أنها تسترد عافيتها عندما تعود، وعندئذ يدرك المرء أن الذكريات كانت تؤلم منذ زمن؟ أعرف أننا نسافر في داخلها ونحن مسافروها".
لكن نيومان يتذكر لحظة ولادته، كأنه من السطور الأولى يؤكد أن حكايته لن تخلو من غرابة، بقدر ما يؤكد أن الذاكرة التي يتعكز عليها ليست إلا تكئة لنكتب ما لا يمكن، عملياً، أن نتذكره. من الذاكرة يمسك السارد بطرف حيلته الروائية: "تتوفر لديّ رسالة وذكرى مذعورة، هي رسالة من جدتي: صفحاتها بيضاء، ولون سطورها يميل إلى الزرقة، وبيضاء هي أيضاً. الذكرى المفزوعة هي ذكراي، رغم أنها لا تُنسب إليّ، خوفها هو الخوف الدائم وهو اختفاؤها قبل البدء في الحديث". ستتحرك الرواية إذن كنصين متداخلين: رسالة الجدة التي تركتها للحفيد/ السارد كشهادة على تقاطع تاريخها مع تاريخ العائلة وصولاً لتاريخ الأرجنتين، ونص الحفيد، لتتشكل حوارية هذه الرواية من تقاطع النصين، فنحن أمام ميتا رواية، أو رواية مُضمَّنة داخل رواية بحيث يقوم النص اللاحق بدورين معاً: قراءة النص السابق ومن ثم إعادة كتابته، وبتعبير السارد، "قصتها الصغيرة الكلاسيكية التي تسافر الآن داخل قصتي".
تشتغل "الأرجنتين كان ياما كان" وفق بنية الحكاية الإطارية التي تتولد عبرها محكيات لاهثة متلاحقة، يمكن قراءة الكثير منها كنصوص تبدأ حبكاتها ببدء المقطع وتنتهي بنهايته، بقدر ما تظهر شخوص وتختفي، وتظهر أخرى مرةً واحدة ثم تنطفئ. إنها الحيلة المألوفة في "ألف ليلة وليلة"، والتي جعلت المترجم يختار "كان ياما كان" بأثرها العربي في صياغته للعنوان الإسباني: "لقد تم الاتفاق على هذا العنوان دفاعاً عن اعتماد النص على ألفة المرء للعبارة العربية المألوفة المتصلة بالسرد الشعبي، كأنها نفحة من موروث عربي ذابت ملامحُه هناك".
"الأرجنتين كان ياما كان" نص مؤلف من المحكيات الصغيرة، متجاورة بأكثر مما هي متعاقبة، دون التزام صارم بالضطراد الخطي الذي يحاكي التعاقبية الكرونولوجية الحتمية للزمن الإنساني. لذا فالسارد يتأمل حياته كمن يتجول، عبر ثلاث وسبعين مقطعاً مرقماً، مؤلفاً تأريخاً قوامه المشاهد السردية التي يربطها بالأساس وعي الذات الساردة بها وشكل وقوعها على الذاكرة والوعي معاً.
عن "ضفة ثالثة" - العربي الجديد
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
0 تعليقات