قد تعتريكَ قشعريرة باردة مصاحبة لحزن شفيف عند قراءة رواية إسماعيل فهد إسماعيل «على عهدة حنظلة» الصادرة عن دار العين (2017)؛ إذ إن مسرح الأحداث هو غرفة العناية المركَّزة في مستشفى لندني، وبطل الرواية ناجي العلي، يرقد مطوَّقاً بالأجهزة الطبية في حالة «موت سريري»، مُغلّلاً ببياض الصمت بعد اغتياله أثناء توجُّهه لمقر عمله في مكتب القبس الدولي في لندن عام 1987، يقوم شاهده الأمين، خازن أسراره، وظلُّه على الأرض الشخصيّة الأيقونة حنظلة، بتولّي زمام سرد الحكاية.

مكاشفة روحانية يضبط شيخ الحكّائين إسماعيل فهد إسماعيل معايير بُنيته الروائية، خالطاً جرعات الحنين والأسى بمقادير من الدهشة والكشْف. يصلنا السّرد على شكل حوارات، أشبه بالمكاشفة الرّوحانية من الماوراء بين الفنّان المسجّى في السديم الهلامي، ومخلوقه الطفل الأزليّ حنظلة. يبدوان دميتين معلّقتَين بلا طوق نجاة بين عتبات الموت والحياة، في برزخ الأرواح القلقة الهائمة. تصلنا محاوراتهما كهاتف عُلويّ يبوح عن زمن ظنّنا أنه قد طُويت صفحته، فيوقظنا من نومنا أو بالأحرى من غيبوبتنا. يحملنا السرد إلى جغرافيات منافي المدن ومتاهات القلب. وعندما يتكلم حنظلة، يقوم السارد -بطفولته المشاكسة- بمساررتنا بوشوشات متقطعة من مقتطفات حياة هذا الرجل/ الطفل الذي بقي يرسم الألم والمأساة أشكالاً وشخوصاً ومسيرةً؛ من ترحيل من قرية الشجرة 1948، فخروج من مخيم عين الحلوة بعد الاجتياح الإسرائيلي، فترحيل من شقّة بحولّي، النقرة، تاركاً أصص زرعه على بلكونة صغيرة تموت واقفة.

أطياف من الماضي هي الأصوات التي تبقى معك زائرةً عابرةً. أطيافاً من الماضي. نداءات تأتيك كصافرات ذلك القطار الذي نسمع هديره مبثوثاً في فصول الرواية الثمانية التي تستهلها مقتطفات لمحمود درويش. قطار الذاكرة؟ قطار النكبة؟ قطار الحكايات؟ الرحلة تمر بكل هذه المحطات، مادام قائد القطار سائقاً مخضرماً كإسماعيل فهد إسماعيل، وهو الذي شارك ناجي العلي خبزاً وزعتراً وصعلكة في كويت الثمانينات. أطياف تحوم حول هذا البدن الغارق في البياض: الزوجة (وداد)، التي تناشده الرجوع إلى أسرته، (حنين) تلك المرأة الغامضة التي تقرأ له مقاطع من رواية «المتشائل» لإميل حبيبي. أطياف زوار المستشفى: أصدقاء الكويت، أحمد الربعي، غانم النجار، وغيرهم في لفتة كاشفة أنه لا يمكن أن تُقتلَع فلسطين من قلب الكويت، وهي التي شهدت ولادة حنظلة أثناء عمله في جريدة السياسة عام 1969.

مسار دائري يُكمل إسماعيل فهد إسماعيل بروايته هذه، مساراً دائرياً شرع به منذ «كانت السماء الزرقاء»، في كتابة الهمِّ العربي والقضايا الإنسانية، وحين يقودنا سائق قطار الحكايات بِلُغته الآسرة المهدهدة عبر محطات في العوالم الباطنية المدهشة في حياة ناجي العلي عبر بوح حنظلة، يكشف توتراتِ فنّانٍ وهشاشةَ إنسانٍ وتقلباتِ رجلٍ إضافة إلى ما تحفظه الذاكرة الجمعية من صورة البطل القومي وشهيد الرأي والحرية. وحين يصل القطار إلى المحطة الأخيرة «حيث يكثر نبات الحنظل.. وتجدني بانتظارك» (ص179)، ندرك أنه قد آن لهذا الطفل المشاكس حنظلة أن ينام قرير العين، وحان الوقت لأن تسكن روح مبدعه من قلق تيهها، وحان الوقت لنقول نحن: وفّيت بالعهد، وأدّيت الأمانة يا شيخ الحكّائين، يا سائق القطار الأمين.

عن صحيفة القبس الكويتية

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم