يشدّد الباحث التونسي عبد الدايم السلامي في كتابه "كنائس النقد"على ضرورة البحث عن المعنى الذاتي في القراءة النقدية، وعدم الانسياق الأعمى وراء القوالب الجاهزة، والابتعاد عن القيود التي تحد من فضاء الإبداع النقدي، لإبراز الفعل النقدي كفعل متقدم لا تابع متأثر فقط، بحيث يمكن أن يلعب دورا في تشييد خطاب ثقافي متحرر من أية تبعية أو سلطة مفروضة. يندرج كتاب "كنائس النقد" (الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2017) في سياق نقد النقد، وتراه حين يختار "كنائس" ليضيفها إلى النقد يرمز إلى صفة الحوزة التي تقيد أصحابها، وتبقيهم في إطار محدود مرسوم سلفا، أو تحجب عنهم حرية الحركة والتفكير، بحيث يمرئي كيف أن التأطير الفكري هو عدو التفكير النقدي الفعال المحفز على الإبداع والتجديد.

كشف النوايا:

يشير السلامي في مستهل عمله إلى أن كتابه لا يملك إلا نواياه، ويستطرد في الحديث عن النوايا في الأدب، تلك التي يصفها بأنها "فضاؤنا الشخصي الذي نقرأ فيه الواقع، ونحرر فيه مقاصدنا كتابة أو رسما أو لحنا أو حركة". ويصف النوايا بأنها ولود، ولن يفنى نسلها، وكما يشير إلى الجرح الذي تتركه في نفس صاحبها حين لا تستدل إلى طريق للتحقق أو التبلور، وكيف تغدو حسرة متجددة. يستطرد صاحب "منطق اللامعقول في الرواية العربية الحديثة" في الحديث عن النوايا المضمرة لدى مختلف الأطراف، سواء الكاتب أو القارئ أو السلطة، وينوه إلى أن لكتابه بدوره نواياه التي لا يتكتم عليها، ومن نواياه أن يحث الفعل النقدي الأدبي على الخروج من حيز التطبيق الأمين لتعاليم نظريات النقد الغربية إلى حيز التفكير معها، بل والتفكير بها قصد تبين حدود قراءتها النصوص الإبداعية من جهة، والنظر في إمكان تجاوزها قدر الإمكان من جهة أخرى، في مسعى للتفاعل والتجديد. يؤكد على جانب سوء النية في الأدب، وكيف يمكن أن يحرج الواقع ويخرج الكاتب من حيز المفعولية والخضوع الأعمى لبريق الخطابات الإشهارية صوب فضاء الفعل الحضاري الذي يحقق للناس حضورا بهيجا في الكون. ويجد أن الكتابة سيئة النية هي التي تملأ فكر القارئ بطاقة ناقدة لكل ما حوله، وتقف ضد هيمنة سلطة الأمر الواقع عليه بجميع هيئاتها المادية والرمزية، وترفع الحجب عن ذهنه، وتفتح له كوة ينظر منها إلى الممكن مما لم يتحقق في دنياه ويستمع إلى ما لم يقل بعد مما تمنى قوله. يستشهد بمقولة للجاحظ في رسائله يحث فيها على تمجيد سوء النية، إذ يقول: "فاستيقظ عند هذه الأحوال، واستعمل سوء الظن بجميع الأنام؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحزم سوء الظن. وقيل لثقيف: بم بلغتم من الشرف والسؤدد؟ قالوا: بسوء الظن". ويعتقد أن الكتابة سيئة النية هي أيضا "فضاء ينجز فيه النص الأدبي قصاصا تخييليا من أعوان الظلم، ويمكر فيه من مكر الماكرين". يحاول الباحث أن يقدم في فصل "تحرير القراءة" ما يعتبرها وجهة نظر يزعم أنها تمثل أرضية للكتابة النقدية لأن تتهذب أدبيا، ويفصح أن غايته من ذلك، أن يؤكد حقيقة أن للنص الإبداعي العربي شخصية ثقافية تميزه عن النصوص الأخرى، ومن الواجب التنبه لها وأخذها بعين الاعتبار في فعل القراءة، وأن يبين بأن الناقد العربي الراهن لا يصنع معنى، وإنما كل غايته أن يبحث عن معنى غيره في النص. كما يناقش تاليا ما يصفه بهنات الفعل النقدي الراهن محاولا إظهار وجوه اضطرابه وتهافته من حيث صلته بالمقروء وصلته بالقارئ وصلته بالمناهج الغربية وصلته بالواقع، وما له من أثر في طبيعة النص الأدبي الفنية والمضمونية وفي كيفيات حضور الكاتب في مجموعته الاجتماعية. يتساءل السلامي إن كان بالإمكان تأكيد فكرة وجود "شخصية ثقافية" للنص الأدبي تمثل بالنسبة إلى النصوص هويتها التي تميزها عن بعضها بعضا داخل جغرافيات الثقافة الإنسانية؟ وهل لتفطن القارئ لطبيعة هذه الشخصية دور في صفاء تواصله مع النص؟ ولا يغفل عن الإشارة إلى أنه لا ينطلق مما يمكن أن يوصف بأنه تعصب عرقي أدبي، بل يحاول البحث عن انتماء ثقافي للنص، انتماء مواز للانتماء التجنيسي.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

خصوصيات ثقافية:

يتحدث صاحب "أرق الأصابع" عن أدب المهجر، ونتاجات الأدباء المهاجرين، يجد أنه قد تترجم الرواية العربية، وقد تقرأ في جميع أنحاء العالم، ولكنها ستظل عربية الروح حيثما قرئت، يتحدث عما يصفها بالهوية الذوقية بتوصيف جيرار جينيت. ويعتقد أن ما يكتبه المهاجرون العرب والأفارقة مثلا في بلدان إقامتهم الغربية هو أدب عربي أو أفريقي داخل آداب تلك البلدان وإن كان مكتوبا بلسان من ألسنتها، بمعنى أنه يظل أدبا ثانويا داخل الجغرافيا الجديدة، ويوصف فيها دوما بأنه "أدب الآخر". يؤكد على أن "هجرة الكاتب هي بالأساس انتقال جسدي، أما الهجرة خارج الثقافة فأمر مستبعد كثيرا، لأن الثقافة تتلبس كينونة الكاتب المهاجر فلا تبرحها أبدا، وربما قد تعبر منه إلى بعض نسله، فتصير إرثهم الرمزي الذي قد لا يعتوره الضمور إلا بعد أجيال عديدة". كما يؤكد على أن الكاتب يحمل تاريخ جغرافيته وحاضرها حيثما ذهب. يعتقد الباحث أن القول بوجود الخصوصيات الثقافية للنصوص الأدبية أمر يجب ألا يكون سببا لتفضيل نص منها على آخر، ويجد أن هذه الخصوصيات هي سبيل للنص إلى أن يشكل لونا من ألوان الإبداع ضمن دائرة الثقافة الشاملة، ويركز على أن "الأدب محلي بالضرورة، وبقدر ما يخلص لمحليته يستطيع مخاطبة الإنساني في الإنسان، ويكون بذلك أدبا عالميا، بمعنى أنه يمثل زهرة من باقة الأدب البشري". يبحث فيما يسميه بأفق القراءة الجذلى، ثم في بحر نص الواقع، متسائلا: من يكتب نص الواقع؟ وما هي مواصفات هذا النص؟ وهل له وظائف أدبية؟ ويقول إن الواقع نص في حالة إنجاز مستمر. ثم يتحدث عما يصفه بنص الكاتب، ونص القارئ، لينتقل بعدها إلى ما يسميه بالوصاية النقدية، مطبقا تصوراته على عدة نصوص عربية معاصرة. يتناول الكتابة النقدية المقيدة التي تقوم بتحجير الإبداع وتطويقه وفرض نوع من الوصاية عليه، ويتحدث بنوع من التعميم وهو يحاول استعراض كيف أن القراءة المدرسية منعت النقد الأدبي العربي من أن ينهض على دعامة مشروع فكري واضح وجريء يناسب ثقافة نصوصنا الإبداعية الجديدة ويقرأ فيها مضامينها وقيمها من دون الاكتفاء بأشكال كتابتها. ينوه السلامي في خاتمة كتابه إلى النص النقدي نص إبداعي، أو هكذا يجب عليه أن يكون الآن، ويدعو قارئه إلى المشاركة في عملية الكتابة اللاحقة، أو المتخيلة، وذلك من خلال إشراكه، واستدراجه إلى عوالم الكتابة والنقد والقراءة المتفحصة النابشة في ما وراء الظواهر، والنيات أحيانا. يقول: "ليست الخاتمة من أمر كاتب النص إذا، لأنه موجود فيه، وإنما هي من أمر القارئ وحده. فليكتب القراء خاتمة كتابي هذا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــ عن مجلة "الشروق" الصادرة عن دار الخليج الإماراتية العدد 1128.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم