لا يختلف أحد مِن قرّاء ونُقاد أليف شفق على أنّها كاتبة ذكيّة وذات قاعدة قرائية عريضة لا تتوفر إلّا لقليل من الكُتَّاب (عدد نسخ الطبعة الثانية حوالي 200 ألف نسخة وفق ما هو مُسجّل على غلاف الكتاب) كما حققت شهرة واسعة خارج بلدها. أما ذكاؤها فيتجلَّى في أنها تختار موضوعات رواياتها بعناية فائقة. فعينُها دومًا على تركيا الحاضر وواقعها وهويتها المتعدِّدة، حتى ولو ذهبتْ إلى الماضي كما فعلت في رواياتها “أنا وَمُعَلِّمي”.

الغريب أنَّ أليف شفق المولودة عام 1971 في “ستراسبورج – فرنسا” لا تعيش في تركيا منذ طفولتها فغدت أشبه بجوَّالة تعيش في أماكن متعدِّدة؛ حيث عاشتْ فترة مع أمّها “شفق أتيمان” الدبلوماسيّة في أماكن عملها، والآن انتقلتْ إلى العيش في بريطانيا. ومع هذه الملاحظة بالغة الأهمية إلا أنّ جميع أعمالها مُنغمِسة في الواقع التركيّ، وَتُعبِّر عن هموم المأزومين والمُهَمَّشِين.

في حوار أُجرى مع أليف شفق عقب صدور روايتها الأخيرة “بنات حواء الثلاث” سألتها المُحاورة “لماذا كتبتِ هذه الرواية؟” جاءتْ إجابتها هكذا “نُوقِشَتْ في هذه الرواية أسئلة هامة جدًّا، بدون فهمها لا تستطيع أن تفهمَ تركيا بالضبط”. الغريب أن مَن يقرأ الرواية لا يرى فيها صورة تركيا وحدها، وهي تعيش صراع الأيديولوجيات والهُويات، بل هي صورة مُصغَّرة عن الشرق الأوسط برمته. فالرواية تعكس قضايا النّسوية وما تتعرّض له النساء من انتهاكات وتحرُّشات في مختلف مجالات عملها؛ الأزقة والمدارس والعمل والبيت. ومن ثم جاء الدعم الكامل لهن كما أشارت في الإهداء.

نساء على الأعراف

لا شك أن واحدة من أهمّ القضايا التي تطرحها أليف شفق في معظم أعمالها تتصل بالمرأة وحقوقها التي تُصارع من أجل الاعتراف بها في تركيا بصفة خاصة ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامّة، هذه القضايا ظاهرة بصورة لافته في رواياتها “لقيطة إسطنبول” و”مرايا المدينة” و”المدّ والجزر” و”إسكندر” (شرف حسب الترجمة العربية)، و”قصر الحلوى” و”قواعد العشق الأربعون”. في جميع هذه الروايات المرأة المهزومة حاضرة بفعل سُلْطة أبوية أو بفعل سُلْطة الأنساق الحاكمة، أو بفعل سلطة الحب، وكذلك بفعل سُلْطة الأُمُّومة كما طرحت في سيرة الأمومة (إن جاز الوصف) “حليب أسود” التي ناقشتْ فيها مفهوم الأمومة في الإبداع، وكيف أنّها انهزمت أمام هذا الإحساس الذي كانت ترفضه من قبل، وكأنّ المرأة في حبها على تعدّد الواقع عليه الحبّ؛ الأبناء، العشيق، وكذلك الانتماء للهوية أو الدين، دائمًا مهزومة، لكنها ليست هزيمة المغلوب بقدر ما هي هزيمة المُحبِّ.

تبدو الرواية الجديدة “بنات حواء الثلاث” حسب الترجمة التركية أو “ثلاث بنات في المنزل” وفقًا للنص الأصليّ المكتوب باللغة الإنكليزية (424 صفحة من القطع المتوسط) الصّادرة عن دار نشر دوغان في يونيو 2016، من خلال نظرة غير متعمقة أنها رواية تعتني بالمسائل الصوفية على نحو ما فعلت في روايتيها السابقتين الصُّوفي عام 1997، ثم “عِشق” (قواعد العشق الأربعون) 2009. لكن النظرة الفاحصة تكشف أنها رواية تأمُّل ومراجعة للتصوُّرات الدينيِّة لمفاهيم شائكة، حول مسألة الاعتقاد، وطرائق التفكير حول الله، وما هي الحقيقة؟ وكيفية الوصول إليها؟

الرواية ليست مَعنية بالإله، بقدر ما هي مَعنية بكيفية الوصول إلى العقيدة الصحيحة. عبر تساؤلات تطرحها المُؤلِّفة على لسان شخصياتها الإشكاليّة والمتناقضة؛ مؤمنة ومُلحدة ومُتردِّدة، من نوعية: هل يتمُّ الإيمان بالله بدون تفكير؟ وفي المقابل هل يكون إنكار وجود الله بدون تفكير؟ وما بين الإيمان والإلحاد كان ثمة طريق ثالث مرّرته عبر علاقات ومحاورات شخصيات الرواية الثلاث والتي غلب عليها الطّابع الفلسفي والجدلي في آنٍ معًا.

مفهوم الإيمان وطبيعته والأهم تَلَقِّى الآخر له أو إنكاره يحتل مكانة متميزة داخل هذه الحوارات. فالإيمان على حدّ قول أليف شفق في تصريح لها ليس بالضرورة مفهوما دينيا وهو ما جعل مفهوم الإيمان وطبيعته والأهم تَلَقِّى الآخر له أو إنكاره يحتل مكانة متميزة داخل هذه الحوارات. فالإيمان على حدّ قول أليف شفق في تصريح لها “ليس بالضرورة مفهوما دينيا“. كما أن نظرة أليف في هذه الرواية نظرة شمولية وتتجاوز ليس فحسب حدود مكانها الأسير تركيا/إسطنبول، وإنما تنوِّع باختيار شخصيات مُتعدِّدة الجنسيات، فتختار ثلاث نساء من منطقة الشرق الأوسط، ينتمين إلى وسط ثقافي واجتماعيّ عالٍ، ويدرسن في جامعة أكسفورد.

تضع الكاتبة الشخصيات الثلاث معًا، ومع التناقضات الظاهرة بينها على مستوى الانتماء إلى بيئات وثقافات مختلفة وأيضًا الانتماء إلى أيديولوجيات متباينة، فواحدة متدينة وثانية مُلحدة وثالثة على الأعراف بين الإيمان والإلحاد، تدير حوارًا حول الإله والإيمان به أو إنكاره. ويكون الاختبار الأوّلي كيف لهذه الهُويات المتناقضات أن تنصهر وتعيش معًا. وتحدث المفاجأة فتتجاوز العلاقة بين هذه الفتيات الثلاث إطار الصّداقة إلى إطار الأخوّة، وهو الدرس الذي تُقدِّمه الكاتبة في نهاية روايتها بأن اختلاف الهويات لا يعني إقصاء الآخر أو استعداءه، بل من الممكن أن تَحْدُثَ المعايشة والوئام، شريطة توفُّر وحدة الإنسانيّة وليس وحدة العقيدة، على نحو ما عاشت الشخصيات الثلاث.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

مرآة مصغرة

تتكوّن الرواية من أربعة أقسام متداخلة الزمان والمكان، حيث المراوحة بين إسطنبول وأكسفورد، عبر أزمنة مختلفة تبدأ من عام 1980 وتنتهي في عام 2016. ركّز القسم الأوّل من الرواية على الشخصية الرئيسيّة “ناز پري نَلْبَنت أوغلو” منذ طفولتها في ثمانينات القرن العشرين، فيسلط الراوي العليم الضوء على حياتها وسط عائلتها المتناقضة، ويصف لنا في فصول طويلة حياة هذه الأسرة التي شبَّت فيها پري على المناقشات الحادّة بين أفرادها متعدِّدي الهويات، فالأب يؤمن بالمبادئ الكماليّة والأمّ متدينة ترتدي الحجاب بل متشدِّدة في الدين، أمّا الأَخوان؛ فالأكبر يساري ماركسي، والأصغر قومي مُتعصِّب.

وسط هذه الأجواء نشأت پري وهي أصغر أفراد العائلة؛ حيث جاءت بعد فترة انقطاع الحمل والإنجاب، ولهذا حظيت باهتمام وعناية الكثيرين. پري كانت شاهدة على مناقشات الأسرة، إلا أنّها كانت دائمًا على الأعراف، فانكبت على القراءة والانعزال، حتى تفوّقت في مدرستها.

في الحقيقة لم تخرج پري مُعافاة من تناقضات العائلة التي كانت تمثيلاً حقيقيًّا أشبه بالمرآة المُصغَّرة للمجتمع التركيّ وتركيبته الأيديولوجية المتعددة والمتناقضة، فانتابتها الشكوك والحيرة، وهو ما دفعها في فصل “الرقص مع ملك الموت” لأن تُرسل رسالة إلى الله تبثُه فيها حَيْرتها التي وقعت فيها بسبب ضغوط أمها عليها، وهي الحيرة التي تصحبها إلى أكسفورد حيث دراستها في الجامعة، وبعد تعرُّفها على أستاذ مادة الإلهيات “أُزور” تتبادل معه الرّسائل، ومعظم الرسائل القصيرة بينهما كانت من رواسب علاقتها بأسرتها، لكن الفارق الوحيد أنها وهي وسط عائلتها التزمت الصّمت، وكانت تراقب حتى اختلط عالمها الداخليّ، أما في أكسفورد فتحوّل الصّمت إلى حوارات صاخبة، خاصة بعد علاقتها بشيرين الإيرانية.

بعد فترة استطاعتْ أن تُنهي دراستها الثانوية بتفوق، ثم راجعت بدعم من والدها جامعة أجنبية، واستطاعت أن تنجح في امتحان القبول. الغريب أن كل هذه الأمور تمت دون علم الأم، وعندما سمعتْ الأم انتابها شعوران متناقضان الأوّل هو الفخر بابنتها الوحيدة التي استطاعتْ أن تدخل جامعة أكسفورد وهو إنجاز ليس بقليل، والشعور الثاني كان القلق حيث خوفها على ابنتها التي ستبتعد عنها لسنوات طويلة، دون أن تكون تحت عينيها وتشملها بوصايتها.

لغة آسرة وحبكة سردية متقنة يبدأ القسم الثاني بدخول پري الجامعة في عام 2000. وكانت پري قد واجهت صدمتيْن في حياتها الأولى بدخول أخيها الأكبر “أومت” السّجن بسبب أفكاره اليسارية. والصدمة الثانية كانت بمجرد أن وصلت إلى أكسفورد بما انتابها من شعور بعدم الثقة وسط هذا الحشد من الطلاب الواثقين بأنفسهم، مقارنة بذاتها المُتوجِّسَة والحَائِرة. ثمّ تبدأ التحولات في حياة پري بعد علاقتها بصديقتيها شيرين ومنى، وهما على النقيض تمامًا، فشيرين إيرانيّة تنتمي إلى أسرة عاشتْ في المنافي ردحًا طويلاً من حياتها بسبب سياسات المَلالي في طهران، وكانت مُلحدة، تُنكر وجود الإله علانية.

أما الثانية فهي منى أميركية من جذور مصرية والقادمة من نيوجرسي، تنتمي إلى عائلة منقسمة بين الأب المتحرِّر والأم المتدينة. اختارت منى الحجاب بإرادتها دون أن تفرض الأسرة عليها رأيها، في حين كانت أختها الكبرى مُتحرِّرة ولا ترتدي الحجاب. كانت منى تعلن دومًا أن الإسلام دين المحبة والسّلام، وإن كانت تعرّضت إلى تحرشات وصلت إلى التحقير بسبب الحجاب. وعبر عوالم هذه الشخصيات المتصارعة، لمَّحتْ شفق إلى مُمارسات الإقصاء التي مَارسها المُختلِف في العقيدة.

الحوارات الصاخبة

عبر علاقة الأصدقاء الثلاثة، والتي تنتهي إلى أخوّة عميقة رغم التناقض الشديد بينهم في الأفكار والمعتنقات، تُقدِّم أليف شفق رؤية مُهمِّة لصراع الأيديولوجيات على اختلافها في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تُشدّد على دور الوسط الاجتماعي وتأثيره على التشكيل، فحالة الحيرة التي كانت عليها پري كانت نتاج البيئة المتناقضة التي نشأت فيها. وبالمثل كانت حالات النّفي والتشتّت التي عاشتها أسرة شيرين سببًا لهذا التمرّد على هذه السُّلطة الأبوية. أما منى فقدمت الكاتبة عبرها نموذج الليبرالية المعتدلة عبر حالة الوفاق التي تعيشها الأسرة، فكانت منى أكثرهم سَويَّة نسبيًّا.

تلعب شخصية البروفسيور “أُزور”أستاذ مادة الإلهيات التي نصحت شيرين پري بأن تختار درسه، الدور المحوري في عملية التحولات التي أصابت الشخصيات الثلاث. فبقدر حالة الصخب في الحوارات التي كانت تعقب دروسه أو في لقاءاته حول الله والعلم والهوية والانتماء، علاوة على الخلافات الناشبة بين الشّرق والغرب، إلا أنه كان المرفأ الذي استقرتْ عليه حالات الصَّخب والحيرة بمناقشات ساخنة مع “أُزور” الأستاذ المتخصِّص في الإلهيات، والذي اتّهمه أحد الطلاب (وهو تُروي) في لحظة مناقشة صاخبة بأن “ثمة شيطانًا في داخله” هو ما يقودهم إلى برِّ السلام.

انتهى الأستاذ إلى حالة من الوئام النفسي بعدما تعرض هو الآخر للاضطهاد من الجامعة، فأنجز بعد استقالته العديد من الأبحاث حول مشروعه عن التدين وطبيعة الإيمان، وصار واحدًا مشهورًا بفضل هذه الكتابات، وهو ما لم يكن له أن يتحقّق لو استمر في عمله الجامعي، لكن أهم تحوّل هو تبادل الأدوار في نهاية الرواية حيث تصبح پري هي المعلّمة وأُزور الطّالب الذي يتلقى علي يديها طبيعة الفروق بين الأستاذ ابن رشد وتلميذه ابن عربي، ورؤية كليهما للعشق.

تتميز الرواية بلغة آسرة، وأيضًا بحبكة سردية متقنة، تدفع دومًا للاستثارة والبحث عمّا بعد، فالقارئ دومًا مشارك للشخصيات في حواراتهم وأزماتهم، على الرغم من التفاصيل الكثيرة التي حشدت بها الكاتبة النص، وهي التفاصيل التي لم تستثمر داخل النص، فغدت جزرًا منفصلة، لكن في الحقيقة هذه الصفة من جماليات أسلوب شفق، إلى جانب الاشتباكات بين مفاهيم الإيمان والكفر والتردّد، إلا أن الكاتبة تجمع في روايتها بين الدينيّ والفلسفيّ وأيضًا السياسي في خطوط متداخلة، عاكسة للمتغيرات التي حلّت في منطقة الشرق الأوسط، وبروز قضايا الدين والتطرف إلى الواجهة من جديد.

كاتب من مصر

عن صحيفة العرب اللندنية

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم