خلال سنوات وجوده في القٌارة السمراء، عندما بات عدة أيام في ضيعة صغيرة، لقبيلة نسي اسمها (ربما تدعي البانغوي؟)، وتبادل الحديث هناك بمساعدة مترجم مع بعض أهالي المكان، كما صور للقارئ، البيروفيٌ ماريو فارغاس يوسا في رواية حلم السلتيٌ، عن (الإرلندي المناهض للعبوديٌة والاستعمار الذي شنه الإنكليز علي الكونغو لأجل المطاط حيث عذبوا وقتلوا واقترفوا أفظع جرائم بحق الكثير هناك، واستعبدوا مسنين ونساء وأطفال لخدمتهم في نهب ثرواتهم بجلدهم وتوسيمهم، و كانوا هزيلين وعظامهم بارزة من شدة تلك الأعمال والجوع الذي حل بهم، حتي سيطرت نزعة القوميٌة في أخر خلاياه لبلاده أيرلندا من هول ما رآه هناك، ودعوة استقلالها، واسترجاع حرية أرص أسلافه السلت، وبعد محاولة تحريرها من الاستعمار الإنكليزي بإنشاء لواء تحالف مع الألمان في الحرب العالمية الثانية، اتهموه آنذاك بالخيانة، والشذوذ والميول الجنسية التي كتبت في يومياته، اليوميات السوداء، رغم الجدل الدائر حول إثبات أنه الكاتب إلي اليوم، وعلٌقوه بعدها في المشنقة بعد إصدارهم الحكم، فمنهم من أقام له نصب تذكاري بعدها بمقاطعة كيري في بالهيغوي، وحطم له آخرون مناهضون، بسبب تلك التهم والميول الشاذة التي يمارسها، عبر رحلاته، مع ذكور من الكونغو وبوتومايوو والتغرير بقاصرين هناك وفي مقابل ذلك ينكرها أصدقائه ومعارفه ومؤيدي جهود الإستقلال الإيرلندي التي كان يبذلها ويتهمون الإنكليز بتلفيقها تمثالاً له في أنتريم عند مرتفعات غيلين، في غلينشيسك _) إن كل ما رآه وما سمعه خلال شهور التي قضاها في وسط وأهالي الكونغو وبوتومايو، قد أيقظت فيه حالات قلق أعمق وأكبر سمواً من الشرط الإنسانيٌ، أسمي حتى من الخطيئة الأصليٌة، أسمى من الشر وأسمى من التاريخ، ويمكن له أن يفهم ذلك جيداً، لقد أنسنته، وأن يكون المرء إنساناً ذلك يعني، كما صورت الرواية، معرفة الحدود القصوى التي يمكن أن يبلغها الجشع، والبخل والأحكام المسبقة، والقسوة، وكل ما يعرف بالفساد الأخلاقي، وكل ما ليس له وجود بين الحيوانات. شيء يختص به البشر حصرياً، و أن كل تلك الفظاعات في الرحلات عبر الأدغال والقبائل الأفريقيٌة في الكونغو والسكان الأصليين في إدارة بوتومايو، بأها تشكل جزء من هذه الحياة هناك، وقد فتحت عينيه وإدراكه لما حوله، وبتعبير يوسا الروائي:"افتضّت عذريته".

لقد أحبطه وأخافه تواطؤ الجميع، أكثر من ذلك، مشاركتهم لما يحصل هناك في البيرو عندما طالب بمحاكمة المجرمين والقتلة الذين تم إرسالهم من سجون ومواخير انكلترا، العاملين بشركة أرانا في البيرو، والذين يقومون بحملات التعذيب و الجلد وتوسيم السكان الأصليين وقطع أعضائهم وقتلهم في أسوأ الأحوال، وأثناء قدومه لإيكيتوس التقي بمستر ستيرز القنصل البريطاني الذي استضافه في بيته، أعرب عندها روجر كيسمنت عن استيائه ومناهضته لتلك الفظائع في مناقشة مع ضيوف وأعضاء اللجنة البريطانية من بينهم شخصية بابلوا ثومايتا، عندما قرر اختبار مضيفيه بشأن إذا ماكانوا يصدقون تلك الفظائع أم لا، تفاجأ، واحتقن عندما أظهروا له بأنهم ليسوا مبالين أبداً لما يحصل، وكانت ردة فعل القنصل البريطاني المماثلة والذي يبدو بأن كل ذلك لا يعنيه بخصوص التضحية التي أقدم عليها الصحفي "بنجمان سالدانيا روكا" بكشف الحقيقة عن مايجري في مقالاته الصحفية قبل اختفائه، قال القنصل: "أنا لا أعجب بالشهداء ياسيد كيسمنت، ولا بالأبطال، فأولئك الناس الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الحقيقة أو العدالة كثيراً ما يتسببون بضرر أكبر من الضرر الذي يريدون إصلاحه"، تيقنت روح روج الصوفيٌة عندها بأن كل تلك المصائب التي يسببها صمت وتخاذل الجميع، وأنها لا تعني الجميع "كما لو أن ذلك لا يحدث لأن هناك أناساً قساة وإنما بصورة قدريٌة، مثلما تتحرك الكواكب ويرتفع المد البحريٌ".

كما لو أن "فعل الإيمان "في أولئك المسؤولين المتواطئين الذين يدعون "الإيمان"، تأكد عليهم عندما تخرج من فم ذلك الارتيابي"جورج برنارد شو" عديم الإيمان، إنما هو "غش وخداع"، ورغم تعليقاته وارتيابه من النزعة القوميٌة، فقد وقع بيانات وكتب مقالات، تأييدا لإلغاء العقوبة علي روجر، وبتعبير روائي أخر ليوسا "فليس ضرورياً بأن تكون وطنيا وقوميا لتكون شهماً وشجاعاً". لقد "افتضت عذرية" جورج بتعبير يوسا، على أن مجتمعات قانون وكنائس وشرطة وأخلاق، هي فقط الحائل دون تصرف البشر كالوحوش، ولكن في أحد تلك التبدلات المفاجئة كما في الروايات الفرنسية المتسلسلة، ينقلب بعض أعضاء اللجنة البريطانية ريثما يسافرون إلي بوتومايو لإلقاء نظرة علي أعمال شركة س. أرانا هناك من رؤية كل ما لا تصفه غير كلمات من قاموس الوجوديين علي شاكلتي"العبث" و"الغثيان"، فما يفعل وما يقال عالمان متباعدان، وبتعبير يوسا"الكلمات تنكر الوقائع والوقائع تكذب الكلمات".

وبعد كل تلك الرحلات والتقارير والاستكشافات والأمراض وروائح المطاط العفنة والجثث والتوعكات التي حلت به، والصدمات والمناظر المتوحشة البشعة اللاإنسانيٌة التي تقترف في حق الإنسان، وبعد كل جهوده لوقف ذلك العبث والغثيان، وقد نجح في الكوغو وبوتومايو، وبعد تحوله من بحار مغامر بسبب تلك القصص التي يرويها له والده عن البحارة والمغامرين إلي رجل قومي النزعة والاهتمام بتحرير بلاده إيرلندا، والعمل علي تحقيق حلمه السلتيٌ، حتي سجنه والحكم عليه بالإعدام، هكذا، عرف السير روجر كيسمنت في تلك الأدغال المليئة بروائح المطاط العفنة التي تعبق في الأجواء الرطبة، أن المسنين في تلك القبيلة، حين يشعرون بأنهم سيموتون، يربطون ممتلكاتهم الضئيلة في حزمة، وبتكتم، دون أن يودعوا أحداً، محاولين المضي دون لفت أي انتباه، يتوغلون في الغابة، يبحثون عن مكان هادئ، شاطئ علي ضفة بحيرة أو نهر، أو ظل شجرة ضخمة، أو مرتفع فيه صخور، ويقبعون هناك بانتظار الموت دون إزعاج أحد. إنها طريقة حكيمة ولبقة للمغادرة.

وهكذا وبتعبير يوسا "تسطع تلك القصة وتنطفئ وتولد من جديد بعد موته مثل تلك الألعاب النارية التي بعد أن ترتفع عاليا وتتفجر مكونة مطر من النجوم والرعود، تنطفئ، تصمت، وبعد لحظات من ذلك، تنبعث من جديد تملأ السماء بالحرائق" فقد نجح يوسا في تصوير حياة ومغامرات ورحلات ذلك الإيرلنديٌ المناهض للعبوديٌة ذا النزعة القوميٌة المتعصبية والمتأصلة لبلاده، لأنه وبكل بساطة، لو أننا نحصل علي مانريد حين نعتقد أننا في حاجة إليه لما كان في الحياة أيٌ مشكلة، أو غموض، أو معني.

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم