تدور أحداث رواية حبتان من القمح: ثنائية الحب والحياة في مدينة الأنبياء في غضون عام 1854م في ذروة حرب القرم بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، تلك المرحلة التي ركزت فيها كتب المؤرخين على أوربة والجوانب السياسية العليا ولم تحفل بما يجري على المستوى الشعبي في المشـرق العربي، إنها مرحلة حساسة مؤثرة وهي أيضًا شبه مجهولة أو منسية من تاريخ القدس والصـراع الأممي على مقدساتها، ولهذا فليس من المستغرب ألا نجد اهتمامًا من الأدباء لتناولها في إبداعاتهم الأدبية. ومن هنا تأتي هذه الرواية لتغطي بسيرة درامية على لسان بطلها جانبًا خفيًّا من ذلك التاريخ الدقيق، برغم ندرة المصادر التاريخية التي استندت إليها ولم تحِدْ عنها. عبر سفينة قديمة يعود (حسام) بطل الرواية -وهو طبيب دمشقي الأب مقدسي الأم- بعد تخرجه في الطب من عاصمة الدولة العثمانية الأستانة وأجوائها المفعمة بالحياة، مع صديقه (يونس) إلى بيروت ثم إلى دمشق، ومنها إلى القدس الشريف. ومن خلال مذكرات الطبيب اليومية تتكشف قضيته الخاصة التي يحملها نيابة عن والده الضابط المشارك في الحرب، وتتصاعد علاقاته مع أهل القدس مسلمين ومسيحيين. وعلى دروب أزقة القدس وحاراتها ومعالمها العتيقة وداخل بيوت لا نعرفها، وفي ظلال المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وأجوائهما العابقة بالخشوع يكافح حسام الشاب المحب المتفاني في خدمة الناس من أجل حياة الفقراء وإنقاذهم من الجوع والمرض والكارثة الإنسانية التي حلت بالمدينة المقدسة ولم يلتفت إليها أحد، في الوقت الذي يعيش فيه قصة حبه العفيف، ويسعى أيضًا للكشف عن قاتل أمه وأخته والعدو الذي يتربص به في الظلام، ويعاني في سبيل ذلك متاعب ومضايقات متواصلة. شخصية البطل حسام: إنها بطولة من نوع آخر في زمن آخر، تحت عباءة التاريخ ووصفٍ لأدقِّ تفاصيله الصغيرة. وبين نفسٍ مشرقة بالإيمان والقيم السامية، وبين جميلٍ ساحرٍ وحدثٍ صعبٍ مريرٍ تتنامى وتتعقد ثنائية الحب والحياة في مدينة الأنبياء. في هذه الرواية تتجلى مدينة القدس بصورة مدينة فاضلة حقيقية تربت على أيدي الأنبياء، وبطلها شاب متخلق بأخلاق الأنبياء. ذلك أن التسامح والتحابَّ والنخوة وأجواء السلام والمحبة تعم المدينة، وإن كان قد أصابها الفقر والمرض ودخلت في محنة تاريخية صعبة. بطل الرواية حسام الشاب العفيف الذي يحاسب نفسه، ويتصف بذكاء شديد وأريحية وإيثار. جاء إلى الحياة من أبويين أصيلين عريقين من محتد عربي واحد من دمشق والقدس بعد ولادة متعسرة، فوضعته أمه على أيدي قابلات مسلمات ومسيحيات في بيت عربي مسلم في صباح مطير، فكان أسمر طويلًا مثل الرمح العربي. "كان الطفل طويلًا كشعاع شمس الصباح... آه!! لن أنسى ذلك اليوم". (الولادة: المشهد 36) وهو مافتئ يكرر قوله: "في حياتنا خير كثير لم نكتشفه بعد، هي مشكلة اكتشاف لا مشكلة وجود". (اكتشاف: المشهد 30). شخصية البطلة مارية: في الرواية مارية الشابة العفيفة النقية الرفيقة الرقيقة التي هي جميلة النفس والصورة وتحب كل بريء ويحبها كل بريء، وهي رمز للقدر الجميل في حياة حسام، هي نصف الثنائية وقسيم بطولات البطل وملهمته الأبدية وأم بنيه وبناته وجدة أحفاده، وهي في الخلاصة جدة كل الشـرفاء المرابطين في المسجد الأقصى والمدافعين عن القدس ومقدساتها. شخصيات فاضلة عدة: في الرواية أيضًا والدة البطلة الخالة أم فؤاد، هذه السيدة الحنون العطوف. وفي الرواية يونس هذه الشخصية المؤثرة، وهو صديق حسام الوفي المؤمن الفاضل الكريم الأصيل. وثمة شخصية الوالد الضابط الذكي البطل وهو المحب لابنه وأمته بالقدر نفسه. وشخصية العمة الحانية الكريمة الجوادة، وزوج العمة المخلص لأهله وأمته. والصديق الطبيب برهان وهو نعم الصديق. وكذلك أصحاب السفينة وبحارتها الذين هم نماذج طيبة جدًا وكريمة الأخلاق. وفي دمشق الجار والجارة وهما نموذج رائع للجوار، وفي القدس الجار إبراهيم الحلاق عاشق القدس الشهم المبادر. وفي هذه المدينة الفاضلة سيدها الشيخ معراج معقل الحكمة ومعقد الرأي، وهو المربي الفاضل وخلاصة لأخلاقيات علماء الأقصى. وفي الرواية والد البطلة الأستاذ وجيه النموذج الرائع لصاحب رسالة العلم والتعليم، وتلميذه يحيى الذي صار معلمًا، وفيها عيسى الشاب النبيل الوفي ذو الهمة، والشيخ هاشم التلميذ الذي يحمل صفات شيخه، والضابط عوني الحريص على تلمذته للشيخ معراج وإخلاصه في عمله، والخياط الطيب القلب، والأب إلياس الصديق الناصح، والممرضات المخلصات المحببات، والفتى مطانيوس الفقير المعدم المكافح بكرامة، وفيها النجار المتقن الماهر، والرجل ذو الحصانين الذي لا ينسى المعروف. كثيرًا ما اجتمعت مكارم الأخلاق في هذه الرواية؛ ولاسيما الكرامة وعزة النفس مع الذكاء. ففيها كثير من الأذكياء الكرام، بدءًا من البطل حسام المثقف القارئ المتحدث بلغات عدة والشديد النباهة والفهم والمخطط الماهر في حساب كل الأمور، وصولًا إلى الطفل حمدي اليتيم الفائق الذكاء. النماذج المناقضة: بيد أن الرواية تعرض النماذج الأخرى المغايرة ليظهر الخلُق بظهور نقيضه، وهذا ما يكسب العمل صدقيته، ففي المدينة تظهر شخصية ميخائيل وهو رجل يعمل ناسخًا للمخطوطات ولكنه في الحقيقة متلون ماكر، ليكتشف البطل في النهاية أنه الجاسوس الذي تبحث عنه السلطات، ومع هذا الرجل شخصية الشرطي الخائن الذي يتبين فيما بعد أنه عميل للجاسوس وقاتل مأجور. خاتمة: في الرواية تتجلى لنا معاني الإخلاص والغيرية عبر شخصيات عديدة فيها، وكذلك شخصيات المساكين والمرضى كالطفل المعوق المشرد، والمرأة التي ولدت طفلها المقدسي على يد حسام، تلك الوالدة الشابة التي هي رمز للقدس التي تصبر وتجاهد في مخاضها العسير لتنتصر على ضعفها وتبقى حية معطاء ولَّادة في النهاية.


محمود عمر خيتي: باحث لغوي وشاعر وكاتب وخطاط ورسام، كتب الرواية والقصة والقصة القصيرة جدًا والمسرحية، له عدد من المؤلفات الأدبية المنشورة في الشعر والقصة وأدب الطفل ومقالات لغوية وأدبية واجتماعية. محاضر سابق للغة العربية في جامعة الإمارات، ثم مدقق لغوي في مركز الإمارات للدراسات. يقيم في مدينة إسطنبول، ألقى عديدًا من المحاضرات. هو الآن متفرغ للبحث العلمي والكتابة، وهو مؤسس ومدير مؤسسة كبار المدققين اللغويين وفصول الخط العربي على الشبكة، وعضو شرف رابطة شعراء العرب.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم