كانت الروايات المكتوبة في شكل رسائل، في القرن الثامِنِ عشر، ذائعة الشهرة والرّواج، وقد شكّلت روايتَا صمويل ريتشاردسون الطويلتيْن "باميلا" و"كلاريسا" علامتين مهمّتين في تاريخ القَصص الأوروبيّ. وألهمتا عديداً من المقلدين أمثال روسو في "هلويز الجديد" و"العلاقات الخطرة" لبيير شودرلو دي لاكلو. وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فالمسودّة الأولى لرواية جين أوستن "عقل وعاطفة" كانت في شكل رسائل، بيدَ أنّ المؤلفة أعادت النظر في أمر الكتاب، وتكهّنت بما آلت إليه رواية الرسائل من تدهور في تلك الحقبة، فعَمَدَت إعادة كتابته ليَكون رواية سردية عاديّة. ولقد أصبح هذا النوع من أنواع الرواية –والحق يُقال- من الأنواع شديدة النّدرة، فقد عَزَفَت أقلام الأدباء في الفترة الأخيرة على الاهتمام برواية الرسائل، غير أنها لم تنقرض تماماً، ومن المفيد الإبقاء عليها كما برهن على ذلك مؤَخّراً الأديب الروسي المعاصر والمبدع ميخائيل شيشكين في روايته التي صدرت في شكل رسائل بعنوان "كتاب الرسائل" والتي نُشرت لأوّل مرة عام 2010 وترجمها عن الروسية مباشرة الدكتور فؤاد المرعي. إنّ علّة تدهور هذا النوع من الرواية معروفٌ وجَليّ، وذلك عائد إلى التطوّر التكنولوجي الذي يَسّر سُبُلَ التواصل، وجعل من هذا الكوكب المترامي الأطراف مجرّد قرية صغيرة؛ فباتَتِ المراسلة أمراً غير معمول به، وحتى على المستوى الأدبيّ، هبطَ هذا التطور برواية المراسلة إلى مرتبة دونَ التي كان يَشغلها في نفوس القرّاء، ودائرة اهتمام المبدعين؛ فانحطّ تأليف هذا الجنس الأدبيّ انحطاطاً قَطَعَهُ ميخائيل شيشكين الذي تَحَدّى هذا التدهور والإسفاف الذي شَهِدته رواية الرسائل، فضلاً عن هذا التطور الذي ساهم في الإنصراف عن جنس أدبيّ هامّ فأزكى وَهَجَ هذه الأزمة. وتمرّد شيشكين على روح العصر الحديث، ليُخرج لنا أيقونته البديعة "كتاب الرسائل" كما عَهِدنا أقلام الأدباء الرّوس. ولكن إذا عُدنا سنوات قليلة إلى الوراء، لوجدنا كذلك أندريه ديفيز، الذي استغلّ إختراع آلة الفاكس لصالحه فألّف عمله "فاكسات قذرة" عام 1990. ولكن الآن، يختلف الأمر، فقد أمْسَى الروائي الحديث الذي يَستخدم شكل الرسائل، مُرغَمٌ على خلق وضعية تُلزِمُ الشخصية وتُجبِرُها على استعمال الرسالة، كونَها الوسيلة الأنسب للتواصل؛ حتّى يَخلَعَ على روايته نوعاً من التصديق والواقعية. فبطل رواية ميخائيل شيشكين هذه شابُّ تَمَّ استدعاؤه للانضمام إلى الجيش الذي شدّ رحاله نحو ساحة الحرب حيث لا أنترنت ولا هواتف، فما من خَيار للتواصل إلاّ باللّجوء إلى الرسائل ولا طريقة للردّ من قِبَل الطرف الآخر إلاّ كتابة الرسائل. إنّ رواية الرسائل تمتاز بميزة إضافية مقارنة بالرواية العادية التي تَعتَمِد السرد. في هذا النوع من الرواية -أيْ المراسلة- يمكن استخدام أكثر من مراسل. وبهذا، تستطيع أن تعرض الحدث ذاته من وجهات نظر متباينة وتفسيرات مختلفة تمام الإختلاف، وتقلّبه من جوانبه جميعاً. وميزة أخرى يَمتازُ بها أدب الرسائل، هي أن بطل الرواية يَقُصّ حكايته أو جزءاً من حكايَتِه على مَن يُكاتبه. وهنا يوجد مُتلقّيان، "متلقي ورقي" (وهو الذي تُكتَب له الرسالة) و"متلقّي طبيعي" (وهو القارئ). وهذا يعني أنّ المتلقي الورقيّ يَتوَلّى تمثيل المتلقي الطبيعي وفقاً للسيناريو الذي أعدّه الكاتب سَلَفاً، أيْ أنّ رأيَ المتلقي الورقي أو رَدَّةَ فعله هي ردة فعل القارئ. وكأنّ لسان حال المؤلّف يَقول: "هذا هو الأثر الذي أتوخّى إحداثه في القارئ من خلال روايتي، هذه هي صورة المتلقي الطبيعي الذي أخاطبه!". إننا نعلم جميعنا أنّ أيَّ نوع من الرواية -سواء كانت رسائلية أم سردية- هي في آخر المطاف رسالة أو "معنى عام" على حدّ تعبير نجيب محفوظ، يَأمَل المؤلف إيصاله إلى المجتمع، والإنسانية كَكُلّ. فمادامت رواية الرسائل تحديداً تَحمل متلقيها الورقي في طيّاتها فهذا يعني أنها مُكتمِلة كرسالة؛ أيْ أنّها تتضمّن الأركان الثلاثة للتريسل: وهي المُرسِل، والرسالة -بمعنى مغزى الرواية-، والمُرسَل إليه. فالمُرسِل هو السارد -المؤلف- والمرسَل إليه هو المتلقي الورقي، والرسالة هي الحكاية التي يَحكيها. ولكن بالنسبة إلى الرواية التي لا تَحمل مُتَلَقياً ورقيّاً، والتي يَحكي فيها الكاتب سيرة شخوصه للمتلقي الطبيعي (القارئ) يمكن القول بأنّها غير مكتَمِلة كرسالة فكرية وإنسانية؛ لأنّها لا تتضمَّن الأركان الثلاثة التي ذكرناها. فهي تتضمَّن ركنين فقط، وهما المُرسِل والرسالة الموَجَّهة إلى مُتَلَقٍّ مُفارق، وهو القارئ المُحتَمَل. كما أنّه في رواية الرسائل، يَخرُجُ الأديب عن ذاته في عمله الأدبيّ، ليَتقمّص ذوات الآخرين. وذلك يكون له بالغ الأثر، ليس في تَماهي القارئ مع النّص وكفى، بل في المشاركة في صياغة الحدث نفسه وقدرته على تجاوز ما صاغه الأديب، إلى نحتِ رؤىً جديدة تُشاكل قراءاته النفسية للحدث، وهذا ما تمكّنَ ميخائيل بافلوفيتش شيشكين من نسجه بوشائح ملساء تسحب القارئ إلى مساحات فسيحة من التأمّل، وهو ما لا يمكن لروائيّ بغيرِ موهبة شيشكين إحداثه. ولقد مَنَحت الواقعية شبه الوثائقية لأسلوب الرسائل الروائيّين الأوائل تأثيراً وسلطة لم يَسبق لها مثيل على قرّائهم، لدرجة أنّ القرّاء الأوائل لرواية باميلا إعتقدوا أنّ ما تَحويه الرسائل حقيقة، ولم يَسمحوا لريتشاردسون بقتل البطلة رغم توالي الأجزاء الواحِدَ تلوَ الآخر. ولن يَنخدع قرّاء الروايات الأدبية المعاصرون على هذا النّحو بلا مِريَة. ولكنَّ شيشكين قام بحيلة بارعة حين جعل الشاب فلاديمير يَنظمُّ إلى الجيش لكي يتواصل مع حبيبته بالمراسلة، فأضفى على الحكاية واقعية بالغة رغم أنّ الرسائل لم تكن مؤَرّخة. في هذه الرواية، كتبَ شيشكين الرسائل بأسلوب تلقائي عذبٍ تعتريه شاعريّة رقيقة ساذجة لا تخلو من طرافة، معتمداً على الوصف، ومقتنصاً التفاصيل لتُشكّلَ مادة خصبة لمواضيع رسائله، منتقلاً بذلك إلى ما هو أبعد، فقد سَعَى الكاتب بكل تلك الذكريات الوردية قبل الافتراق، والأحداث اليومية التي تمرّ بالمتراسِلَيْنِ، وكل ما يريانه ويتلقّيانه، إلى إبانة نظرة الشخصيَّتَيْنِ إلى الحياة، متشاركين في تفاصيلها، متقاسمَيْنِ تذوُّقَ ترنّماتها. فيقول فلاديمير معرباً عن وازع تشبّثه بالكتابة على الرغم من كل تلك الظروف الصعبة -الحرب- منطلقاً من وصف ممَّا يحيطه من أجواء:"أنا الآن أتمنّى أن أختبئ بعيداً عن كلّ ما يحدث هنا، ومع ذلك أدوّن كل شيء -ألا يمكن أن يحتاج إنسان في يوم من الأيّام إلى ما أكتبه؟ قد يريد أحدهم أن يعرف شيئاً ما عنّا، عمّا رأيته اليوم، عن حالنا ونحن نمشي حتى وقت متأخّر من اللّيل، ثم ننام ما يتبقّى منه على الأرض المبتلة دون أن ننصب الخيام. كلّنا ننام كيفما اتُّفق. الأمطار حوَّلَت الطريق الترابية إلى كتلة من الطين اللزج. عربات المؤن وعجلات المدافع تغرق في كلّ خطوة فيحملها الجنود على أيديهم. اليوم، سحبت ساقي من الطين اللزج تاركاً فيه حذائي. من ذا الذي سيهتم بحذائي؟ ولكنّي، على الرغم من كل ذلك، سأكتب." ص 342.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم