في الرواية هناك شخصيّات يُصطَلَحُ عليها بالشخصيات الإشكالية؛ وهي شخصيات تحمل قِيَماً أصيلة وتحاول غرسها في مجتمع منحطّ، ولكنّها تفشل في زرعها وينتهي بها المآل إلى اليأس والثورة والتمرّد، أو الاكتفاء بالإفصاح عمَّا عليه ذلك المجتمع وانتقاده دون تقديم قواعد إرشادية أو توفير فرضيّات ثقافية تحمل نماذج وأنماط سلوكية. ونجد هذه الشخصية في رواية "مكتب البريد" للروائي والشاعر العبقري هنري تشارلز بوكوفسكي التي صدرت لأوّل مرة سنة 1971 وترجمتها إلى العربية ريم غنايم سنة 2014. إذ أنه بين الحين والحين يظهر نوع فريد من الأمريكان ليكشف لهم وللعالم ذلك الحزن العميق الذي يُعَشّشُ في هذا البلد المجنون بالسرعة وعدم المبالاة. وكان بوكوفسكي في صدارة هذا النوع من الأمريكي الحزين.. الأمريكي الذي قاسَى حياةَ مجتمعه فامتلأ قلبه بالأسى لأنه لم يجد في هذه الحياة تلك المعاني الإنسانية الصادقة التي تجعل الإنسان يحتمل وجوده وربما يَسعد به. هذا أمريكي حزين مَلَأَت شهرته العالم بعدَ أن فَرَض وجوده، بيدَ أنّ الكثيرين أساؤوا فهمه، حتى أمريكا نفسها جعلت منه صورة مائعة خليعة. وصُنِّفَ في بلده على أنّه "تخريبيّ" ونعتوا أدبه بأدب المراحيض.

تُسرَدُ الرواية بضمير المتكَلّم (أنا) والراوي هو بطل الرواية واسمه تشيناسكي (وفي الحقيقة بوكوفسكي وتشيناسكي هما وجهان لعُملة واحدة، حيث أن بوكوفسكي يَحكي سيرته الذاتية على لسان تشيناسكي). ومن أوَّل سطر يَروِي لنا تشيناسكي بداياته كموظف في مكتب البريد، برتبة "ساعي بريد مُناوب" أيْ يُعَوّض أيَّ ساعي بريد مُترسم في هذا المجال في حال كان مريضاً أو غائباً لأيِّ أسباب أخرى. ويَصف بوكوفسكي على لسان تشيناسكي هذه المهنة، بحُلوِهَا ومُرِّهَا. وبعد ثلاث سنوات يُصبح تشيناسكي هو الآخر مترسماً برتبة ساعي بريد منتظم. ولكنه لا يبلث أن يَستقيل بسبب سياسات العمل الرأسمالية التي تعتمدها أمريكا والتي رَفَضَها بوكوفسكي. وهذه الأسباب توَجّه نَقداً لاذعاً إلى الأنظمة الأمريكية الرأسمالية، كما أنها فلسفية في جانب من جوانبها. ولكن فيمَ تَمَثَّلَ هذا النقد الذي وَجَّهَهُ المؤلف في روايته "مكتب البريد" للمنظمات الأمريكية والمجتمع الأمريكي -كَكُلّ- وقوميّته الساذجة أو وما يُسمّى بالحلم الأمريكي؟!

حين صار "تشيناسكي" مترسِّماً وباتَ ساعي بريد منتظم بعدَ مُضِيّ ثلاث سنوات في هذه المهنة، نقرأ له في الصفحة 73 يقول: (جاءني بعض المنتظمين وصافحوني. قالوا "مبروك". قلت "نعم". مبروك لأيّ شيء؟ لم أفعل شيئاً. الآن أصبحتُ جزءاً من الجماعة. استطعتُ أن أكون هناك لسنوات، وفي النهاية أن أختار مساري الخاص. أمكنني أن أتسلم هدايا عيد الميلاد من الناس في مساري. وإذا اتصلتُ لآخذ إجازة مرضية، قالوا للمناوب المسكين "أين المنتظم اليوم؟ أنتَ متأخر. المنتظم لا يتأخر").

وقد تبدو للقارئ العادي أمثال هذه الأقاويل في الرواية مجرّد خواطر يُفضي بها البطل، غيرَ أنها في عمقها تُفسّر قول الراوي في الصفحة 72:"بشكل ما، لم أكن سعيداً جداً. لم أكن رجلاً يَبحث عن الألم. هذه الوظيفة (ساعي بريد) لا تزال صَعبة بما فيه الكفاية، ولكن بطريقة أو بأخرى إفتَقَرت إلى سحر أيام المناوبة -أياماً كنتَ تجهل فيها ما سيَحدث معك في الغد." ويقصد بكلمة "سحر" تلك المباغتة المدهشة واللّذيذة التي تَنتُجُ عن التفاجئ بما سيواجهُهُ الساعي المناوب في هذا اليوم أو ذاك. بطبيعة الحال، ليس هناك يومٌ نسخة مطابقة عن سابقه بإطلاق، حتى بالنسبة للسجين الذي يُكرّر الأشياء ذاتها بشكل يوميّ. وكذلك بالنسبة لساعي البريد المنتظم (المترسم في العمل) الذي له مسار هو نفسه الذي يُوزع فيه البريد كل يوم على مدى سنوات، في التوقيت نفسه، والمكان ذاته، والأشخاص ذاتهم. رغم ذلك، لن يكون اليوم كالبارحة أو الغد، إذ لا يَعلم المرء القدر الذي تُخفيه مُحاجَزَات الزمان ومماطلات الأيام، خاصة وأننا نتحدث عن أحداث في نطاق روائيّ. بيدَ أنه بالنسبة إلى ساعي البريد المناوب، فالأمر يختلف عن ساعي البريد المنتظم كُلَّ الإختلاف. إذ لا يمكن للساعي أن يَحدس بما سيواجه غداً، ولا يَعلم بمَن سيلتقي، وأين ومتى وكيف؟! بل لا يعرف ما إذا كان يَومَهَا سيشتغل أم لا، ويَغدو الساعي المناوب في توق لهوف إلى الغد، أي إلى الأيّام ومفاجآتها وخباياها ومغامراتها. وهنا بالتحديد، يَكمُنُ "سحر أيام المناوبة" الذي يُعرِبُ عنه بوكوفسكي، إذ لا يشعر البطل بالسَّأم والرتابة في العمل. وهذا "السحر" هو الأمل الوحيد الذي يمكن للشخصية البطلة -تشيناسكي- التمسُّكُ والتشبُّثُ بعُروَتِهِ للعودة إلى العمل في اليوم الموالي. كما أن بوكوفسكي صاحب مقولة:"النهوض من الفراش في الصباح، مثله مثل مواجهة جدار الكون الأصم." ولكن بالنسبة إلى "تشيناسكي" أيّامَ كان مناوباً فإنّ سحر تلك المباغتة الحلوة التي تُضفي معنىً على استيقاظه تنجَح في هدمِ جدار الكون الأصم ذاك.

كل هذا الـ"سحر" كان قبل أن يقول:"بشكل ما، لم أكن سعيداً جداً. لم أكن رجلا يَبحث عن الألم. هذه الوظيفة لا تزال صعبة بما فيه الكفاية، ولكن بطريقة أو بأخرى إفتقرت إلى سحر أيام المناوبة -أياماً كنتَ تجهل فيها ما سيَحدث معك في الغد." فقد جاءت هذه العبارة بعد أن صار مترسماً، وهذه الفكرة، توضّح مدَى الأثر السلبي للأنظمة الأمريكية الرأسمالية على نفوس العمّال الذينَ تعمل تلك الأنظمة على قتلهم ببطء، وقدّمَ كذلك بوكوفسكي نموذجاً مِمّن قُتِلوا وانهاروا بسبَبِهَا حقاً. وتمَثَّلَ هذا الأنموذج في شخصية "جورج غرين" الذي بسبب تلك المهنة أو بالأحرى النظام الرأسمالي الأمريكي، هَمِدَ جسده وما عادَ قادراً على السَّيرِ، وكان يُوَزّع البريدَ وهو مترنّح الجسم، خائر القوى وقد وصلَ إلى حدّ البكاء والإنهيار البدني والنفسي التامّ. ولكن، نرجع إلى تشيناسكي الذي ما إن صار ساعي بريد منتظِمٍ حتى إستولت على نفسه الرتابة ونهشه الروتين القاتل والعمل الميكانيكي المضني، ولم يَرضَ بالرزوخ تحت هذه العذابات مُطَوَّلاً، فجَمَحَ إلى إتخاذ قرار الإستقالة. وهنا بالذات، تُضاح عبارة تكررت تقريباً كُلَّما إمتَهَنَ مهنة جديدة، حتى لقد باتت نوعاً من السلاسل اللّفظية المُتكرّرة. وتقول هذه العبارة:"بعدَ قرابة 12 عاماً بقينا اثنيْن من أصل 150 أو 200." وهنا، هذا التكرار النّمطي في الرواية، إنّما يَكون لإظهار الحياة بصورة إيجابية كئيبة. وقد تَتَجلَّى للقارئ في بعض الأحايين ضرباً من ضروب الفكاهة. ولكنها تُخفي قدراً لا يُحَدُّ من الحزن العميق والمفجع. فهذه العبارة تشرَحُ هَرَب الموظفين من العمل، وإستقالتهم وخروجهم منه لشدّة إرهاقه ونصبه، فتُلخص معاناة الأمريكان من سياسات العمل الأمريكية المدمّرة والمُستَغِلّة. وهنا، يمكن أن نَرجِعَ إلى الناقد الروسي الشهير ميخائيل باختين الذي أكَّدَ -في كتابه "الخطاب الروائي"- على أهميّة دراسة الشخصيّات ضمن رؤيته البوليفينيّة للرواية إذ بَيّنَ أنّ الموضوع الرئيسي الذي يخصّص جنس الرواية، ويغلق أصالته الأسلوبية هو الإنسان الذي يتكلّم وكلامه، وفي نفس السياق يُبْرز أن الإنسان الذي يتكلم وكلامه هما موضوع لتشخيص لفظي وأدبي داخل الرواية، وما دام المتكلّم فرداً اجتماعيّاً فإنّ المتكلّم في الرواية هو دائماً، وبدرجات مختلفة، منتج إيديولوجيا وكلماته هي دائماً عيّنة إيديولوجية.

الآن، بالخروج من أحداث الرواية واللّجوء إلى السياق الاجتماعي للمؤلف، نجد أنه كاتب خرج من كبد المجتمع، ووُلِدَ من رحم المعاناة. فقد شَنَّ ثورة ضدّ منظومة مُجتمعية بأسرها، باعتبارها "مدمِّرة" على حد تعبيره. إذ أنّ بوكوفسكي حتى حين أوتِيَ من المال قَدراً يَهتدي به إلى سبيل عيش رغدٍ وهنيءٍ وَفَّرَهُ له جون مارتن لكي يتفرّغ للكتابة، لم يتوقف بوكوفسكي عن نقد مجتمعه. لا مجتمعه كأشخاص مُحَدَّدِين أو مسؤولين أو صُنّاع قرار؛ وإنّما وَجَّهَ كُلّ نقده إلى المنظومات والقوانين والإيديولوجيات والأوهام التي يَرتَعُ فيها الأمريكان ويسبحون ونَفَى نجاعتها. كما كان يَنخر نخاعَ الحقيقة بكل مُباشريّة، حتّى لَقَد مَثَّلَ كابوساً بالنسبة إلى الأمريكان الذينَ يُحاولون التكيّف مع هذا الواقع المرير بإنكار حقيقته التي يُصوّرها أدب بوكوفسكي، حيثُ وَضَعَهُمْ أمام مَرَايَا الحقيقة المطلقة التي تعكس حقيقة الذات الأمريكيّة المُغتَرَّةِ. فنُبِذَ وكُرِهَ وشُوِّهَتْ صورته حتى باتَت صورة مائعة خليعة (في بلاده)، وكما قلتُ آنِفاً، اعتبروه "تخريبياً" خائناً للوطن -من وجهة نظرهم- والجهود التي يُسديها هذا الوطن في سبيلهم، في حين أنه يمتصّ دمائهم ويَعصرهم عَصراً، وهم يحاولون إنكار هذا الأمر. وفي الواقع، لا أزال أحاول إيجاد تفسير منطقيّ يُفَسر تَشدُّدَ الأمريكان هذا، أو -لنكون صريحين- هو خوف شَنِيع من مواجهة الذات والحقيقة والتغافل عنهما، ومحاولة التأقلم مع تلك النّظم التي تستعبد الإنسان وهي واقعٌ يَعيشه الأمريكان والدليل على ذلك أن قصة مكتب البريد والعذابات التي قاساها تشيناسكي هي تجربة عاشها المؤلف فعليّاً، بل كانت لتكونَ سيرة ذاتية لولا تغيير أسماء الشخوص وإيداع بعض التعديلات والتفاصيل في القصة. وربّما ما يدفعهم لفعل ذلك هو القوميّة والولاء أو ما يُسمّى بـ"الحلم الأمريكي". ولكن إذا كانت هذه الأحاسيس الوطنية -الساذجة- تُغَيِّبُ عقولهم إلى حدّ الوصول إلى هذا الحد من الشطَطِ والمغالاة، فبئس الأمريكان حقاً، وكما يقول جورج أورويل:"الولاء هو عدم الوعي." وقد يكون سوءَ فهم، خاصّةً وأنَّ هذه الأنواع من سوء الفهم تكون نتيجة المعرفة المحدودة بالآخَر أو بفكرته. كما يمكن أن يكون نتيجة الوعي المحدود للأمريكان وهذه الفكرة نجد جذورها لدى نعوم تشومسكي في مقال كتبه سنة 1985 في مجلة "التقدّمي" (ذو بروڨريسيف) الأمريكية بعنوان "حدود التفكير المسموح به". وفي هذا السياق تَصِحُّ أطروحة محمد كمال التي تقول:"بمقدار ما يَعِي الكاتب واقعه أيْ ظرفه الاجتماعي يكون محصلة لهذه الظروف وفي الوقت نفسه معبّراً عنها وممثلاً لها في الحقل الثقافي، يُساهم في حركتها مثلما ساهمت هي -الظروف- في إيجاده. ومن هنا، ليست الظروف وحدها هي التي تخلق الأدب والأديب، بل إنّ وعي هذه الظروف يُساهم في خلق الأدب والأديب."

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم