ها هو صوت روائي يمني جديد يأتي من جنوب اليمن، في التعريف عن الرواية كُتب: “ما الذي يعنيه أن تكون قادما من حضرموت؟” رواية "الدان" محاولة للإجابة عن أسئلة الهجرة والترحال.. بصوت مليء بالشعر والشجن والأغنيات والرقص، يبدأ العنوان في إدخالك إلى جو الموسيقى والإنصات، وإعادة تشكيل لمعاني الاغتراب والهجرة والبحر.

يمكن تلخيص الرواية في أنها قصة راقص حضرمي يحلم بالهجرة منذ الصغر لكن محاولاته بالهجرة تبوء بالفشل دائما وكأن هذا الأمر لعنة، ثم تزيد مصاعب الراقص بعد سيطرة أنصار الشريعة على المنطقة، ومنعهم ممارسة الرقص، يستمر حظ الراقص السيء بتخليه عن قصة حبه الغرائبية بسبب أحلامه بالهجرة ثم تتوالى الأحداث سريعا لنقرأ مشهدا مؤلما وخلابا وهو مقتل "سعيد" معلم الرقص والقطب الصوفي السابق الذي هجر التصوف واتجه للموسيقى والرقص.

" صوت إطلاق نار، يظل عم سعيد في رقصته، صوت الإطلاق يقترب جداً، يشتبك الظلان في بعضهما ويظل عم سعيد في رقصته، تطلق النار على عم سعيد بكثافة، تخترق جسده رصاصات كثيرة، لكنه ظل يرقص"

لتنتهي الرواية بمشهد "عوض لعنة" أحد أغرب شخصيات الرواية وهو يقود ثورة أهل القرية على أنصار الشريعة، ثم تتوالى أحداث سريعة يضطر بسببها الراقص للهجرة والهرب من جديد لكن إلى المجهول هذه المرة.

عن الدان

يطرق الروائي الشاب علاء بامطرف في روايته الحديثة "الدان" مساحة جديدة في الرواية اليمنية، فحضرموت هذه الثقافة أو القبيلة أو المنطقة تعد واحدة من أكثر الثقافات عراقة في اليمن وأكبرها أيضا، انعكس تأثيرها في الثقافة اليمنية على الشعر والغناء والأطعمة، وامتد هذا التأثير إلى الثقافات التي هاجر الحضارمة إليها، لكن هذا السحر لم يكن قد أخذ طريقه إلى الرواية بعد، فجل الثقافة المعروفة عن حضرموت تتمثل في الأغاني الحضرمية أو الرقص الشعبي والذي عادة ما نشاهده في المهرجانات الشعبية.

حاول علاء توظيف هذا السحر في روايته وأستطيع القول أنه جعل الأمر ممكنا وغير مستحيل، أن يجمع بين الهجرة الحضرمية إلى إندونيسيا وبين الهجرة إلى أفريقيا، ورغم هذا لم يغرق في فخ العودة إلى التصوف الذي أصبح أحد صيحات الرواية العربية بالرغم أن التصوف يمثل أحد مكونات الثقافة التاريخية لحضرموت بالخصوص واليمن بالعموم بل تجرأ بالخروج من عباءة التصوف وتجاوزها كما واجه التوجه التكفيري والقاعدي في جنوب اليمن بدون التغليف الجاهز لحكايات التطرف ، ولم يعد علاء إلى الدولة الجنوبية في اليمن أو يتباكى على النماذج التقدمية المشوهة التي ظهرت في الدولة اليمنية الحديثة سواء في شمال اليمن أو جنوبه، كما لم تكن حكاية الهجرة الحضرمية جوابا لأسئلة قديمة بل كانت سؤالا مستمرا وحاضرا بامتداد الرواية.

" عادت الحرب طاحنة، من ضد من؟! هي حكاية طويلة من محاولات خلق النور في بلد الخرافة والقبيلة وأوهام الشرف المدنس، عادت الحرب كأن هذا الوطن موبوء بالتشظي.

كم سنة مرت على الوحدة كي تنتهي، علي البيض الذي أعلن من تلك المنصة، أن صنعا وعدن تعانقت إلى الأبد، إلى الأبد وإلى الأبد، ها هو يعلن أن الوحدة انتهت، عاد الكل إلى معسكره وابتدأت حرب لم تكن بالحسبان، ولعن الناس الساسة"

ثم فتح بنهايتها القاسية سؤال الفن بمحاولة حل اللغز وأن يظل القارئ لأيام بعد الانتهاء من الرواية مصابا بقلق بطل الرواية وهو ملقى في شاطئ بعيد، لتظهر الرواية وكأنها صورة للواقع بكل صراعاته الحالية وصراعاته السابقة والمخفية والأجمل من كل هذا هو أنها منحتنا نصا سحريا يسحبك من البداية إلى طريق هجرة لا تعلم أين ينتهي :

" في وادٍ صغير على شفا آخر العالم، ولدت، محملا بأسماء مدن كثيرة، كزهرة رحيقها في البعيد جداً، يطأ سمعي كل تلك الكلمات من كل تلك اللغات المتناثرة، وُلّدتُ وأسماء السفن والموانئ حولي تتردد، حفظت هذا البحر منذ التاسعة وأصابني حنين سمكة نفاها البحر"

كان يمكن لعلاء أن يكتب رواية تاريخية تماما حيث ما تزال اليمن منطقة ساحرة لحكايات التاريخ سواء القديم بدءا من سبأ وهدهد سليمان إلى تاريخ الدولة الحديثة، ولم تكن الرواية شخصية تماما رغم أن روايته مليئة بالتاريخ المشوق والثري الخاص بشخصيات الرواية، كل شخصية يمكن متابعتها كرواية مكتملة وتطمع فعلا في أن تشاهد رواية كاملة للجدة مريم التي ذكر سيرتها في عشرة صفحات في فصل عنونه بـ "فصل في سيرة الجدة"

المهجر

عبر أحداث الرواية تناول علاء قصص الهجرات الحضرمية فالشخوص الروائية التي خلقها علاء كانت تملك دائما رصيدا في الهجرات، من أفريقيا إلى إندونيسيا حتى شخصية "عم سالم" الذي لم يهاجر كان صوتا لألم عدم الهجرة والاغتراب الذي كان وسيلة للحياة في بعض الأزمنة

" عم سالم لم يهاجر أبدًا، واحدًا من قليلين قضوا كل حياتهم هنا، كاد يقتله الفقر مرة لكنه ظل يغني:

مانبا الهــند لو تمــطر علــينا بفضـــــة

مانبا إلا الوطن لو عضنا الجوع عضة "

وتناول في ثلاثة فصول تقطع سيرة بطل الرواية لتعيدنا إلى سرديات عن الرحيل والغياب مكتوبة بلغة عالية الشعرية.

"فصل في سيرة الأرض":

أعاد بامطرف هنا تشكيل العلاقة بين الأرض المهجورة والإنسان المهاجر فالأرض هي من أصبحت تشتاق إلى الناس وكل المهاجرين الذين غادروها وتذكر كل التفاصيل الصغيرة "حتى الأرض تشتاق للناس، ترى فيهم وطنها كما يروا فيها وطنهم، تشتاق لخطانا الحافية على رباها، لانهمار الفؤوس على تربتها، لحفر القبور إذ نعود إليها، تصلي لأجل أن يعودوا كما تصلي لأجل المطر"

"فصل في سيرة البلاد":

يبدو هذا الفصل وكأنه رد على الفصل السابق إذ ترد فيه حكايات المجاعات والتعب والقصص المؤلمة التي تخلدت في أودية حضرموت ويورد قصة المجاعة التي حدثت في عام 1947م وكأنه يقول للأرض التي اشتاقت للناس أنها سبب خروج الناس:

" تلك الأرض اليابسة امتدت بحراً وصحراء، لم تأخذ من البحر إلا ملوحته ولم تأخذ من الصحراء إلا قسوتها، عصرت أبنائها حتى أورثتهم النحل والصبر والضجر والخوف من طعم الجوع، وللجوع طعم أنضجته السنون اليابسات" "فصل في سيرة الجدة "

هذا الفصل ربما يبدو كتكريم للشخصية التي أثرت كثيرا في بطل الرواية، حيث بدت شخصية الجدة كشخصية رجل القبيلة الكبير، والتي ربما من خلالها بدت صورة اليمن السعيد كما يُحلم به، والتعيس في الحقيقة.

" لم يكن ثمة سفينة تتسع للحضارمة وإلا كانوا ركبوها جميعاً، كان البحر هو السفينة التي أنقذتهم للعالم، غادرت السفن والمراكب إلى كل مكان، كانوا فارغين من كل شيء إلا من حلم العودة، هذا الحلم الذي كان بادياً أمام أعينهم رغم كل الذي رأوه ورغم أن بعضهم أقسم ألا يعود.. لقد كانت سيرة جدّتي تشبه هذه البلاد في شعثها ورحيلها وتعبها وجمالها أيضاً، في الصندوق الموضوع تحت سرير جدّتي عملات قديمة من إندونيسيا والحجاز وريال ماريا تريز، ورسائل غير مكتملة لا زالت تحتفظ بها"

ختاما نتمنى أن تستمر الرواية اليمنية في منحنا كل هذا الجمال والشغف فالرواية في اليمن ليست عملا أدبيا فحسب بل هي أيضا مساحة للمقاومة والتجديد وتعزيز الفن والحب.

ــــــــــــــــــــ

مدونة وصحفية يمنية - عدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم