جاءت رواية "اللجنة" التي أنجزها المناضل المصري الكبير صنع الله إبراهيم. في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ونشرتها لأول مرة دار الكلمة البيروتية سنة 1981، تعبيراً صادقاً عن موقف الرافض للنهج السياسي الساداتي الذي جمع فيه بين التخلي عن النظام الاقتصادي القائم على الأخذ بيد محدودي الدخل واعتماد التصنيع الوطني- على ما يعتريه من القصور لتلبية احتياجات الناس، أي ذلك الذي أصر عليه حتى آخر نبض في قلبه الرئيس جمال عبد الناصر، ونقيضه الذي ذهب إليه السادات والمتمثل في فتح الأسواق المحلية على اتساع أبوابها للصناعات الأجنبية ليستورد منها جيوش السماسرة والوسطاء وتنشئ أجيالاً لا صلة لها بالواقع الوطني وما يحتدم فيه من صراع وما يزخر به من الآمال.. إنه النهج الذي بدأ مشواره بقوة عقب حرب أكتوبر التي لم يكن لها من مردود سوى الانحياز الكامل لسياسات التبعية والتخلي المطلق عن الأهداف الوطنية والقومية، على الرغم من أنها قد أدت إلى غياب السادات نهائياً ليس غير، علماً بأن الكثير من الصحف الغربية كانت قد تحدثت عن وجوب اختفاء السادات كما أن أبرز عرابي التسوية السلمية الملك المغربي الحسن الثاني، صرّح في ذات الفترة بأنه لو كان في مكان السادات لن يزيد على ما أعطى. لقد رفضت ألمع العقول المصرية توجه السادات هذا في وقت سابق وهو رفض قابله السادات بمنهجية غير مسبوقة عندما التقى بهم جميعاً في سجون مصر، مما أعطى اختفاءه الوقع الطيب، وجعلهم يكتفون بالخروج من السجن على ما سواه على الأقل في الفترة الأولى بمعنى أن نهاية السادات كشخص صرفت أنظار الكثيرين عن بقائه كنهج، مما جعل خليفته الذي كان حاضراً تلك النهاية ولم يشمله أي أذى يدرك عن يقين أن سلامته اللافتة تقتضي المحافظة على الخط، فكان أن زاد على صون ما تحقق المسارعة بتوزيع المغانم المترتبة على ذلك التغيير الذي طال الحياة المصرية سياسة واقتصاداً بأن شملت المغانم المذكورة الحاكم وآل الحاكم أولئك الذين كان من بينهم تلك الجيوش الإعلامية التي أخذت تسبح وتهلل للزمن المبارك صباح مساء، ولاسيما عندما تضاعف انهماكه على ذلك النهج الذي رأيناه يأخذ من الزمن عقودا ثلاثة ،فيما كان صنع الله إبراهيم في مقدمة المعارضين حتى أنه لم يتردد في رفض جائزة النظام الأدبية التي طالما كانت نسبة الكثير ممن كانوا أكثر قدرة اقتصادية ومع ذلك لم يبخلوا بتقديم الكثير من القرابين المذلة.. ومما لاشك فيه أن هذا العمل اللافت ومثله الموقف اللافت أيضاً لم يكن مجهولاً لدى الكثير من مثقفي ومناضلي العرب الذين تفطنوا لما زخرت به رواية اللجنة هذه من تمثل واع ومعالجة جميلة فرأينا منهم من يخصها بأجمل المقاربات أذكر منهم على سبيل المثل الناقد والأستاذ الأكاديمي المغربي أحمد اليابوري، عندما اتخذها إلى جانب نجمة أغسطس موضوعاً لورقته التي شارك بها في ملتقى الابداع العربي الذي انتظم بمدينة طرابلس وحضور عربي موسع، فتأكد يومئذ أن اليابوري من الذين لاتصرفهم الدعوات التي توجهها الأنظمة عن الأدب الملتزم والابداع الملتزم ولو كانت هذه الأنظمة وهي تخطط لمناشطها هذه تتطلع إلى توظيف الأدب والأدباء لتوجهاتها المشوشة وحتى المنحرفة. اعتمد الكاتب في تحرير نصه الروائي هذا الأسلوب المكثف، بحيث لم تزد صفحات كتابه على مائة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط ، قسمت إلى ستة فصول، أما الفضاء الذي هيأه لتحرك شخصياته أو لنقل شخصيته المحورية فكان قوامه الأساس متمثلاً في دورات الزمان وما أتاحه من المتغيرات ، مما جعل المكان المتصل بالراوي محدوداً ، لتأتي اللجنة دون غيرها المحرك الأساسي للحكي، والذي اختار له ضمير المتكلم أي ذلك الراوي الذي طمحت نفسه إلى المثول أمام اللجنة، أملاً في أن ينتج هذا المثول تحقيق ما كان يخالج نفسه من آمال ومطامع في واقع كانت الصعوبات فيه تتناسل على النحو الذي وجدنا فيه الراوي لايتخلص من صعوبة حتى يصتدم بأخرى، كان الزمن ليس فيه إلا المزيد من هذه الصعوبات ، وقد أفلح الراوي في التعبير عنها من البداية ، أي منذ أن طرق باب اللجنة أي بحث عن مكانها أولاً ووصل إليها ثانياً ، ففي صفحات لاتزيد على الثماني قرأنا له ذلك الوصف لنوعية تلك اللجنة التي تطلع إلى المثول بين يديها ونوعية الممارسة التي تقابل بها أولئك الذين يطمحون إلى بلوغ تلك الغاية فهي أولاً لاتحترم الموعد الذي تحدده وإنما تحضر بعده بساعتين وهي في مكان له أكثر من مدخل فيكون من السهل على أعضائها أن يدخلوا ويخرجوا دون أن يراهم أي مراجع وهي أمام ردهة طويلة خالية من أي كرس يمكن للمراجع أن يجلس عليه ، إذ لابد أن يظل واقفاً أمام الحاجب وهي لاتطلب من يراجعها إلا بعد أن تفرغ من الحصول على كل الخدمات بما في ذلك تلميع أحذية الأعضاء ،أو حذاء اللجنة كما عبر النص في دلالة بالغة العمق. لقد ساعد هذا المنحى الراوي على أن يدخل بنا ذلك الواقع الجامع بين استشعار التوتر ومحاولة التغلب عليه والاحساس بقوة المأزق والحرص على الخروج منه، فبدأنا أمام امرىء واضح الإدراك لما يريد، امرىء يتخذ من فهمه لما يجري سبيلاً لتجاوز مكايده أو ما يمكن التعبير عنه بالحرص على الخروج بأقل الخسائر، فهذا الذي كان ذات يوم غائباً عن حضور حدث ما داخل السجن كما يجيب صراحة على أسئلة اللجنة والذي يستمع إلى أعضائها الذين لم يفلح في معرفة عددهم فيكتفي باقتناص نوعيتهم من خلال أسئلتهم وتوضيحاتهم التي شملت التوكيد بأنهم يعرفون عنه كل شيء والذي لا يتردد في الاعتراف بالميل إلى بعض ما ينتقده على غيره من الذين تعج بهم الحياة في زمن الفضيلة المفروضة ومظاهر الاستقامة المصطنعة والمناقضة بكل الفجور كما تابع لحظات التحرش الوقح في القطار والذي كانت ضحيته تلك المرأة التي لم تجد في الأعداد الكثيرة من الناس من يتحرك لنجدتها من ذلك الذي تجرأ على مضايقتها بكل ما يتوفر عليه الأنذال من الصفاقة ، فإذا ما عن له أن يبادر بموقف أكثر تعبيراً عن واجبه كإنسان ، لم يجد ذلك الوغد أي حرج في الاعتداء عليه واعمال عضلاته القوية في إلحاق الأذى بأحد ذراعيه واضطراره للذهاب إلى الطبيب القابع في إحدى العيادات الخاصة التي لم تخجل من استغلال حالته الصحية المتردية في ابتزازه أبشع الابتزاز ويرفض بلا رحمة ذلك الطبيب المتعالي تقديم أي خدمة من ذلك النوع الذي تفرضه إنسانيته أو طبيعة المهنة التي يحترفها ، لأن زمن الإنسانية كما يشير السياق ليس له - على ما يبدو - أي مكان. إن هذه الوضعية جزء من الواقع واللجنة هي الأخرى صورة من صور هذا الواقع ، الواقع الذي يقول من خلاله عضو اللجنة نحن نعرف كل شيء عنك ويقول آخر أنك قطعت شوطاً طويلاً وهأنت تحاول البداية من جديد فإذا كانت الإجابة منطلقة من المنطق التبريري أو ما في حكمه مما يمكن أن يعتبر حجة كافية أو شبه كافية للدفاع نرى أن عضو اللجنة هذا لايتردد في التعبير عن موقف الحاقد بالنظرة غير المريحة على الأقل والنظر غير المريحة هذه تؤثر على مواقف الراوي وإجاباته وحتى مشاعره من يجعله يرتبك أكثر من مرة ويرى نفسه دون المستوى ويحبطه بشيء من التردد على الرغم من أنه وبواسطة إجابته المسهبة يقدم الصورة الكافية عن شخصه ومراحل تطوره منذ النشأة الأولى ولكن المقابلة لا تتوقف عند شأن معين ولهذا يكون من بين أعضاء اللجنة من يسأل عن أمور غاية في الشخصية ولاصلة لها بالأنشطة الفكرية وما في حكمها وذلك عندما يفاجأ بالسؤال عن فشل مني به ذات مرة مع إحداهن على الرغم من ان ذلك الفشل لم يحدث لمرة واحدة ولكن لأن تلك الواحدة لم تكن تمارس ماتمارس بدافع الفطرة أو العادة أو حتى المعصية وإنما تمارسه لتقدم نتائج نشاطها لحظات أخرى من حلقات التبليغ فكان من الضروري أن يطرح مثل هذا السؤال عليه بل وأكثر من ذلك أن تشمل المقابلة مطالبته بشلح ملابسه والكشف عليه في مكمن العفة لأن مع هؤلاء لاتوجد أمكنه للعفة فالمطلوب تقديم صورة كاملة ، صورة يمكن الرجوع إليها أو بالأحرى استغلالها . ومن الواضح أن مثل هذا الفهم هو عينه الذي جعل الراوي لايخفي ما ظل حريصا عليه شديد الحرص كي لايصطاد من إجاباته فيقع ضحية ماتنطوي عليه الأسئلة من الفخاخ اللامتناهية المنصوبة له عسى ان يقع داخلها فيدفع ثمنها في وقت لاحق لولا أنه ولمجرد استشعاره لما أحس به صار يلقي إجاباته بذلك الحذر وأن يكن الحذر المشوب بالسخرية ولكنها السخرية التي يدركها المتلقي دون أن يجد المستمسك الذي يستطيع بواسطته أن يرد فقد استعرض جميع فئات المجتمع حين طلبت إليه اللجنة أن يكتب على إحدى الشخصيات اللامعة في المجتمع فأبلغ متلقيه ماخامره من الشك والحيرة حول نوعية الدراسة المطلوبة وما إذا كانت أكاديمية أو عادية تهدف إلى تقديم المعلومة لتبقى بعد ذلك مسألة اللغة التي ستكتب بها مثل هذه الإجابة فاللجنة التي تشكل من هذا النوع لابد أن تشترط في الإجابة انسجامها مع التوجهات التي يتبناها المقربون وأصحاب الدراية بالمطلوب ومن هنا لم يترك البطل فرصة سؤال اللجنة له عم إذا أتيح له أن يجلس على قمة الهرم فما الذي سيطلبه ولهذا لم يفضل الدفع بقوة العلاقة بين خوفو والدين اليهودي فالزمن هو زمن الإخوة زمن البحث عن المشترك زمن «الكوكا كولا» تلك الزهرة العجيبة التي طالما كانت وراء الكثير من الثروات والأثرياء وأكثر من ذلك كانت وراء اختيار الرؤساء الأمريكيين أولئك الذين طالما وحدتهم الكوكاكولا منذ الصغر وهي بلاجدال تولت رعايتهم وتهيأتهم لرئاسة هذه الامبراطورية العظيمة التي حكمها هذه الأيام «أيام اللجنة » كارتر الذي حقق ذلك التلازم اللافت بين التخلي عن الخيار القومي والمشروع الصناعي فاستحق سخرية الناس كافة ولما كان خصوم الالتزام في الأدب أو لنقل أعداءه الذين طالما استغلوا عبر جبهتهم العريضة مجندين على نحو خاص المتطوعين من نقادهم الذين يعيبون على مثل هذه النصوص خلوها من الجهد الفني اللافت محتجين بما دأبوا على ترديده من ان الأدب الهادف يحتفي بالموضوع وبالأحرى يعول عليه أكثر من التجويد الفني فإن صنع الله إبراهيم يفلح في تمرير كل ما يرمي إليه من موقف نضالي رافض للتبعية الأجنبية على كل المستويات بهذا السرد الراقي الذي سخر ضمير المتكلم لتعدد الأصوات أكثر من المضي نحو ارسالها بلاحيوية وعندما تذيل دار المستقبل العربي التي تولت نشر الطبعة التاسعة «2004» بما نصه . «كان من واجبي لا أن اقف أمامكم وإنما أن أقف ضدكم» من حقنا أن نصدق ما يقال عن هذه الزجاجة البريئة المظهر . وكيف أنها تلعب دوراً حاسماً في اختيار طريقة حياتنا ورؤساء بلادنا وملوكها بل والحروب التي نشترك فيها والمعاهدات التي نوقعها .. كما تحدث بطل اللجنة عندما وقف أمامها متمسحا بها قابلا ل...... كلفته بها .. « رواية جريئة مشوقة ترصد بفنية عالية نمو العلاقات الاجتماعية والاقتصادية خلال مرحلة المد القومي وانحساره وما أفرزته من طبقات وأوضاع وتخرج الواقع الحي بالكاريكاتير الساخر» حتى أن السيارات التي جاءت مع كارتر صارت تنعت «بطرطر» بكل ماتعنيه من التعبير الساخر والمخجل أيضاً.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم