كَمَنْ أخرج مكبِّرة من معطفه المثقّل بالأسرار وشرع يتفحّص بدقّة أوجاع توارت بين اضلع اهل القرية.. صمتٌ يصرخ ألما وصراخ يُخرسه القهر.. هكذا بدت لي رواية "طعم الخرس " التي صدرت مؤخرا لمؤلفها المصريّ الدكتور يحيى خير الله الذي بدا تأثره كبيرا بفئة من أبناء وطنه.. فئة تحيا بصمت موجع.
استلّ قلمه سيفا وراح يخوض مغامرة الكتابة الروائية فحاد عمدا عن القاعدة الأساسية للقصّ في الكتابة العربية، أحداث انطلقت بالتوتر لتنتهي بتوتر أكبر وحكايات بدأت بالتشعّب فتشعبت اكثر وفوضى اجتماعية رتّبها بإتقان في أكثر من عشرة أجزاء معنونة ظلّلتهم شجرة ثمارها بطعم الخرس. الواقعية الرمزية: يعجّ هذا النص السردي بمجموعة كثيفة من الايحاءات والرموز والصيغ التعبيرية التي من شأنها أن تدفع بالقارئ الى التمعّن والتخيل وفك ألغاز خيّمت على محيط الرواية . راوٍ مُثقّل بالوجع اختصر معاناة الشعوب العربية في مائة و تسعة وسبعين صفحة وقد بدا شبيه في وفائه لحارته بنجيب محفوظ من خلال تشبثه بقريته التي عادلت عنده العالم محافظا على مقامات كبارها من الشخصيات فتبدو لك الرواية واقعية اجتماعية إلا انك متى غُصت في قراءتها ستكتشف أنها ليست الا لوحة رمزية بألوان بدوية عصرية . أقام الراوي في هذا الأثر الأدبي الجديد ثورة من الأحداث تتالت فتصاعدت فتشابكت فأحدثت قعقعة ولكن كان للخرس المسلّط فيها على الشخصيات الكلمة العليا فلاحت الصورة الحقيقية لحياة المواطن في العالم العربي من خلال قرية صغيرة كرمز للعالم الذي سيظل صغير مهما تمادت أطرافه. صراع بين زمنين: نواجه في هذه الرواية صراع بين زمنين زمن واقعي يتحرّك الروائي داخله من خلال الشخصيات وزمن خيالي يطلق فيه المؤلف عنان رغباته ومشاعره من خلال احلام نومه وبين الحاضر الملموس والحاضر المحسوس يعيش الراوي حالة اللاّستقرار والتململ داخل مجتمعه كحال ابناء الوطن . في ظاهر الرواية نرى أن الراوي يتحلّى بالتوازن والحكمة ومعرفة واقع المجتمع الا اننا متى تعمّقنا في الرموز نجده ليس الا ذاك الراكض وراء زمن الحاضر وقد تشبثت ذاكرته بالماضي المؤلم يظهر هذا من خلال سفره المتواصل في القطار ونومه على متنه حدّ الحلم، هذه الوسيلة التي تشبه الزمن، متى انطلقت لا تنتظر ركّابها.

صورة المرأة في الرواية:

تحتلّ المرأة مساحة كبيرة في حركة هذا النص الروائي اذ هي المحور الاساسي من خلال شخصية الحاجة " أم ايوب " وما لهذا الاسم من رمز عميق في الذاكرة العربية الاسلامية وقد تحضر هنا ايضا كرمز للشموخ والصبر والامومة وقد تكون هي الوطن والملجأ وقد تكون هي العاطفة العاصفة والدمعة الحاضرة من خلال شخصية "حسناء" وقد تكون هي الفضول وحب الاطلاع من خلال شخصية "نحمده". حاد الكاتب هنا عن تصوير المرأة كجسد كما تعوّدنا بها في النصوص بقدر ما اهتم بشأنها كعقل وحضور اساسي في الحياة وحكمة و قدوة من خلال ما تتميز به بطلة الرواية والتي خصص لها الراوي وصفا تساؤليا يدفع بالقارئ الى البحث في عمق هذه الشخصية القوية في ظاهرها المحطمة العاطفية في أعماقها. الحب الحاضر:
على عكس ما تعوّدنا به في السرد العربي يغيب في هذه الرواية الشعور بالحب الحاضر تمام الغياب لتحتل مكانه مشاعر الماضي .. حب حاضر وحبيب غائب : حضر حب الوطن وغاب الوطن العادل.. حضرت أم أيوب بحنينها الكبير وطالت يد الغدر حبيبها فغاب الغياب الابدي... حضرت حسناء منتظرة عريسها فغاب منتصر دون رؤية عروسته .. حضر الطفل البريء ليغيّب الموت والده صاحب البطولات الوطنية التي سرعان ما تناساها الوطن ولم يترك له الا شهادة تقدير قد يبيعها.. حتى الدكتور رامز المحرّك الرئيسي لأحداث الرواية.. المفكر الرصين في حال وطنه لم يسلم من ظلم الغياب الابديّ وقد انتقل بين الشخصيات يتفحّص القلوب الدامية ينبش مشاعر هذا ويصف حنين تلك مستعملا في ذلك مصطلحات عشق عذريّ مبتعدا عن عقدة الجسد التي تناولها اغلب الروائيين وبقدر ما بدا راقيا في تعامله مع صيغ وتعابير الحب الماضي بقدر ما صوّر لنا الراوي حالته الانيّة من خلال شخصية الدكتور "رامز ".. رجل يعيش بلا حب حاضر الا ما جاد به لابنه مأسورا بحب ماض لن يعود ابدا لذلك نجده قد اجاد بشدة وصف ألم حسناء وهي تناجي حبيبها الشهيد.. اجاد بشدة وصف منتصر وهو يعجن الحناء بالدم مستحضرا صورة حسناء وهو يقاوم الموت.. أجاد وصف نقوش حُفرت ذات لقاء على جذع شجرة.. وصف دمعة اشتياق اكتوت بها وجنتيْ أم أيوب ذات ذكرى.. تعالت هذه الرواية عن العلاقات الغرامية المعتادة في كل النصوص العربية موظفة في ذلك رموز وإيحاءات تدل عن الخرس الذي يسكن كل ثنايا المواطن العربي حتى في مشاعره التي وان اخرسناها قوة ، صرخت ... طعم الخرس رواية جسّد بها مؤلفها الواقع حلما فأسقط بها البطل في غياهب الجبّ.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم