قبل الشروع بقراءة نص ابراهيم الجبين الجديد "عين الشرق" الذي حمَل عنواناً فرعياً "هايبر سيثيميا 21"، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لا بد من التسلُّح ببعض المعارف الأساسية التي تجعل من النص حقلاً واسعاً مفتوحاً على الاحتمالات المتعددة للحكايات المنثورة فيه. ذلك البحث الإجتماعي، السياسي، الديني، الأولى سيمنح القارئ أرضية صلبة تمَكِّنه من فهم طبيعة وبنية المجتمع السوري، وشبكة التحالفات الهرمية التي يشكِّل الانسان البسيط العادي في لحظة ما كتلة لها تأثيرها الخالص في الخاص والعام. الخاص في "عين الشرق" ينقسم إلى قسمين في النص، ففي النظرة العامة الأولية ينطلق من ذات الكاتب، فهو مركز السرد و منطلقه الأساسي رغم غيابه الفاعل في الحكاية، هو أي السارد في مكانٍ ما بين المتلقي وصاحب الفعل، يمكن تشبيه صوته الحكائي إلى حد كبير بالموسيقا التصويرية التي ترافق مشاهد فيلم سينمائي، بينما يظهر المستوى الداخلي للخاص عند الكاتب في كونه جسراً صلباً للانتقال بين الشخصيات التي تختلف في توجُّهاتها وأفكارها وموقفها أيضاً من الأزمنة والأمكنة، وبالضرورة فإن مواقفها لا تتطابق بشكل من الأشكال مع الكاتب الذي يضع نفسه دوماً من خلال ضمير السرد الذاتي على مسافة واحدة من الجميع باستثناء تماهيه الكامل مع المشهد الأخير الذي جاء مفتوحاً أيضاً دون نهاية سردية. أما العام فيسير وفق مستويين أيضاً، الأول يتعلق بمحيط الكاتب فهو خارج ذاته الشخصية باعتباره لم ينحُ باتجاه ثوب السارد العليم، والثاني ما لم يكن له فيه خيار قبول الفعل أو رفضه، تبرز في هذه النقطة صورة المدينة، فجاءت الشام بعدة هيئات في مكان واحد وكانت دير الزور في خاصرة سوريا فضاء ترتدُّ فيه الزلازل التي عبَرَت السارد بمخالفة واضحة لقوانين الجغرافية، فعلاقته مع المُدُن مبنية في النص وفق نظرية خاصة لا تتعلق بالذكريات الشخصية الذاتية فقط، وإنما تمتد إلى بنية نصية متكاملة يتحوَّل فيها السارد إلى كتلة تتخطى الزمن لتجمع في طياتها التاريخ والجغرافية. هذا النوع من الكتابة يحتاج جهداً وصبراً إضافياً من الكاتب، فهو لا يخضع لقوانين الكتابة التقليدية التي تتطلب خطوطاً سردية ينمو فيها الفعل الدرامي ويتشابك عبر حبكات متعددة تختلف فيما بينها وتتوحد في خدمة النهاية التي ينشدها الكاتب في مخطط الكتابة، لذلك جاءت كتابة الجبين في النص مبنية على طرح الشخصيات كما رآها هو من ذاته الشخصية التي حاكمَت العام وفق مقتضياتهِ الحالية، لهذا نرى الاستطراد في أمكنة متعددة بينما يلجأ الراوي إلى التلميح والايجاز في مواضعَ أخرى. منذ الفصول الأولى يعمد الكاتب إلى وضع القارئ في مواجهات صادمة بين ثنائيات عديدة بُنِيَ عليها النص، ثنائيات تكمن في العقل الباطن للقارئ الذي سيجد نفسه في صورة أحد أبطال الحكاية التي قدَّمت نماذج عديدة من المجتمع، من أبرز تلك الثنائيات: "الحرية، الديكتاتورية"، "الأخلاق، الانحلال"، " القوة، الضعف"، " الحب، الكره"، " حقيقة التاريخ، التزوير"، "الأفكار النيِّرة، الظلامية". من خلال معالجة هذه الثنائيات وفق بناء سردي يقدِّم الكاتب نظرة بانورامية لمجموعة من المسارات التي بتجميع قطَعِها الصغيرة المتناثرة تكتمل اللوحة وبالتالي فإن وضع أي قطعة في مكان أخرى يجعل منها لوحة مشوَّهة، هنا تأتي الدقة التي أرادها الكاتب في تصويراته للمدينة التي أرادها شاهداً على شخصيات العمل، وعلى الماضي والحاضر والمستقبل باعتبارها الثابت الوحيد في النص وما عداها متحرِّك، فالشخصيات المتحركة تصالحت مع تشويه المدينة المتعمد من خلال السلطة السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، الجبين هنا لم يلجأ لدمشق لأنها المكان الأقرب التي قرَّر أن يكون هويَّتَهُ فقط، وإنما لقيمتها الرمزية التي تختصر عموم بلاد الشام، فالثنائيات التي تحدثنا عنها تتعلق في دوائر السرد كالسلسلة التي تجمعها من خلال تقديم الشيء ونقيضه معاً، فمثلاً لا بد وأن يتساءل القارئ عن سر صمت المجتمع والسلطة معاً في قصة الضابط النازي الذي حاول الموساد الاسرائيلي اغتياله في قلب العاصمة السورية بعد أن عاش زمناً طويلاً في ثوب عالم أحياء!. إذن العالم المبني في ماهيَّتِهِ على التفاصيل، جاء بصورة مصغَّرَةٍ في "عين الشرق"، لكنه اتَّخَذَ شكلاً جديداً يتناسب مع حالته اليوم فكان مقسوماً عند الكاتب إلى قسمين أيضاً، مَن استطاع أن يكون جزءاً من السلطة باختلاف هوياتها وفضاءاتها، مَن رفض أن يكون ضمن هذه الآلة التي تشتغل ليل نهار لترويض المدينة ومكوِّناتها، لهذا نرى صورة الديكتاتور بهيكل يختلف عن النمطية التي اعتاد الكُتَّاب تقديمها، فهو في مرحلة بين الموت والحياة، يلاحظ ويراقب ويتلقَّى الصدمات ولا يستطيع القيام بأي رد فعل، العجز الذي أراده الكاتب في صورة الديكتاتور هكذا جاءت مطابقة فعلاً للواقع، فالحاكم ضعيف بنفسه قويٌّ بمَن معه على اختلاف المشارب والاتجاهات. الاختلاف عن النمطية جاء أيضاً في شكل السرد الذي اعتمد فيه الجبين "التشظي" كارتكاز للحكاية، التشظي وهو حالة استثنائية غير طبيعية في الواقع إلا أنها تغدو مقبولة في بنية النص بالنظر إلى تعدد المسارات الدرامية والمصائر للشخوص الذين فاق عددهم الخمسين، استطاع الكاتب المواءمة فيما بينهم في مضمار واحد لعبوا على أرضيته جزءاً من الحكاية فقط، فالقارئ سينتبه حتماً إلى أن الكاتب قام بغرس مفاصل لبناء عمل قادم تستمر فيه الحكايات المتعددة وفقاً لمعطياتٍ أخرى. فالسرد الذي ينطلق في "عين الشرق" من نقطة ثابتة إلى نقطة ثابتة أخرى، جاء بصورة خط طول دون عرض، وهذا يحيلنا إلى الزمان والمكان، فالزمان جاء أفقياً ممتداً بخلاف السرد التقليدي بينما المكان كان شاقولياً يفرض طقوسه وتدور في فلكه الأحداث، المكان الذي جاء بصورة مقبرة مفتوحة لأجساد الأحياء وعظام الراحلين، في ظروف استثنائية خارج نطاق التخيُّل يكون فيها الجميع أبطالاً ومهزومين في حرب الحياة التي لا تمثِّل شيئاً واحداً بل هي أشياء كثيرة تختلط مع بعضها البعض لتغيِّر مصائر الجميع، المنتصرين منهم والمهزومين. هنا يمكن التقاط فكرة تشظي السرد باعتبارها استندت إلى ذاتية الكاتب في مكان وذاكرة المدن في مطارح أخرى. تشظي السرد يدفعني للقول إن "عين الشرق" لا تحتفل بالمدينة أبداً، فهي اتخذت منها مسرحاً لأحداث لا يمكن أن تقع في مكان آخر غير دمشق، بينما شكَّلت في حقيقة الأمر عند الكاتب عتبةً تتجاوز في فضاءاتها المحلية لتصل إلى العالمية دون مباشرة في القول، باعتبارها تحمل ارثاً تاريخياً واجتماعياً يؤهلها للعب هذا الدور المنشود، فما يمر عليها الآن هو حالة طارئة سبَقَ وأن عبرَ بها ما يشبهه في الماضي، هذه الصورة أيضاً تؤكد غياب الثيمة الواحدة عن النص الذي حمَل بين طياته مجموعة من المقولات التي تسير في تناقضاتها جنباً إلى جنب مع الشخصيات التي تعددت مواقفها أيضاً من المدينة فهناك الطامح إلى نهوضها وهناك الراغب بتدميرها بينما تلعب السلطة دوراً بين الضفَّتين بهدف السيطرة الدائمة عليها. تظهر الغرائبية والعوالم السحرية في النص ببعض المشاهد التي تدفع القارئ للتساؤل: هل بالفعل هذا كان يحدث بالقرب في أحد أحياء المدينة؟، يكفي هنا مثال واحد عن مسبح العراة، أو ملف التحقيق مع الجاسوس الاسرائيلي "إلياهو كوهين" الذي وقَع بين يدي الكاتب وظلَّ اليوم حبيساً في دمشق. أيضاً تظهر الغرائبية في غياب البطل الواحد، فالجميع أبطال باستثناء الديكتاتور الذي فقَدَ دور البطولة فمات سريرياً، فقَد القدرة على أداء وظائفه الحيوية بصورة طبيعية، وبالمقابل نرى الحياة تدب في أطراف الأبطال الآخرين، إنها فكرة التمرد التي تعشش في اللغة المستندة أصلاً إلى نفَس شعري يخترق الأزمنة الثلاثة في العربية. من الواضح أن الكاتب واصلٌ إلى حد الإشباع الكلي من تفاصيل المراحل المتلاحقة التي عاشها، فنراه يسرد بجرح مفتوح عن مصائر الشخصيات التي عرَفها عن قرب، وفق منطق الدوائر السردية المنفصِلَة عن بعضها البعض، فلكلٍّ عالَمُه الخاص بعيداً عن الآخرين وهو في ذات الوقت مرتبط بحبل سري غير محسوس بمحيطه ومع المدينة في ذات الوقت، لهذا نرى الكاتب يشرِّح بدقة متناهية الأمراض التي تفشَّت بين شرائح المجتمع في صورة سيطرة العدم على كل شيء، فيلجأ هنا الجبين إلى استجرار التجارب المُروِّعة التي عاشها مع آخرين في ثنائيات تبدو مفهومة ضمن سياق النص الذي يزخر بموازين عديدة للقوى يحتاج القارئ معرفة تراكمية كي يستطيع تحليلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صحافي وروائي سوري مقيم في بلجيكا.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم