تعد رواية (ثرثرة الصمت) إحدى الروايات السودانية التي نالت شرف الفوز بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، في دورتها السادسة بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي 2007م، لما لها من خصائص جمالية وبناء فني محكم، أهلها لأن تكون الرواية الأولى التي حازت على تقدير لجنة التحكيم آنذاك. وبما أنّ الرواية – بشكل عام - تعد جنسًا من أجناس الأدب النثري والتي يتسم عالمها الخيالي بالتعقيد الشديد، والمتناهي التركيب والمتداخل الأصول والعناصر، تتلاحم فيما بينها وتتضافر لتشكل في النهاية شكلا أدبيا جميلا، تكون اللغة مادته الأولى والخيال ماؤها، ذلك أنّ الخيال الخلاق يعتبر عنصرا أساسيا في الأدب، بحكم أنّه يقوم بتركيب الصور من المواد الموجودة في الذاكرة، والتي لا يمكن تفسير الكثير من هذه الصور إلا على ضوء العلاقة بين الصور والبيئة التي أنتجتها. لذا اقتضى التناول النقدي أن يقف عند عنصر واحد من عناصر البناء الفني للرواية ألا وهو: الدلالات اللغوية في رواية (ثرثرة الصمت)، إذ المقصود بدراسة اللغة الروائية: الطريقة التي ينتخب بها الروائي المفردات وانتقاء الألفاظ، بغية خلق عالم مستقل له خصائصه الفنية، التي تميزه عن غيره ويتفرد بها عمّا سواه، وهذا يتطلب تقنيات فنية خاصة واستخدام خاص للغة، تحمل مدلولات معينة ومجالات متعددة، ترتبط ارتباطا عضويا بالعناصر الروائية الأخرى، كي تسقط عليها الظلال وتكتسب منها العمق، وتأخذ عنها الايحاءات. ومن هنا يبرز دور اللغة كواسطة في العمل الإبداعي لا يمكن تجاهلها بأي حالة من الأحوال، فبناء الألفاظ وعلاقتها الدلالية ومدى ما يفجره اللفظ من معنى داخل السياق، كلها مقوّمات تسهم في تحقيق البنية الفنية للرواية، فاللفظة في العمل الروائي هي مرحلة من أهم مراحل الاختبار والتركيب، فهي تتشكل من مادة متفاوتة في توصيفها العلمي، ومن ثمّ تؤدي اللفظة وظيفة ذات أهميّة عظيمة، حين تحتل موضعًا تبث من خلاله إشعاعها في اتجاهات عديدة، وتستقبل في الوقت ذاته إضاءات تلك الاتجاهات المتعددة، ففي حالة البث مرآة مقعرة، أمّا في حالة الاستقبال فهي مرآة محدبة. ومن هنا فالبناء الدلالي للغة الرواية إمّا أن يقدم عالمًا تتميز أحواله بالرتابة وزمانه بالسكون وفضاؤه بالثبات، وهو ما يعرف بالصورة الوصفيّة كقول الراوي (في وسط البركة تربض شجرة سنط ضخمة، تكاد تكون صفراء اللون من جراء أزهارها المتفتحة بازدهار وألق، وقد التفت حولها وفي مجرى المياه نحو الوادي شجيرات من السدر المخضر وجوقة من "دقل" السنا مكه، متمسكة باخضرار الحياة بنمط فريد) الرواية ص 11. استخدم الراوي في هذا الوصف الصورة الوصفية ما يربو على الثلاثين اسماً، التي تدل على معنى في نفسها غير مرتبطة بزمن أكثر من اعتماده على الأفعال التي دائما ما ترتبط بزمن يحدد حركتها ومسيرتها. أمّا الوظيفة الثانية للغة الرواية فهي أن تقدم عالمًا متحركا يتسم بالحركة والنشاط والديناميكية، ويتسبب في دفع الأحداث إلى مرحلة الصراع ويغير من طبيعة الزمن التصاعدية، وهذا ما يعرف بالصورة السرديّة كوصف الراوي للفيضان (لم يبق كائن من كان لم تعصف به الريح أو ترشقه أو تلطمه الأمطار المنهمرة بياتا أو نهارًا، تهدمت الجسور وجرفت السيول السكك الحديدية والطرق موحلة وفاض النيل فعم وأغم... وطغت الأنهار الهادئة فتغولت وأفترست فجرفت الزرع والضرع وما أبقت) الرواية ص 111.استخدم الراوي صورة سردية تتسم بالحركة وتعبق بالنشاط والحيوية، عبر استعمال أكثر من أربعة عشر فعلا في هذا المقطع، تتعانق جميعا من أجل إنتاج صورة سردية يحسها القارىء أمام ناظريه في حركة دائبة مستمرة، ويشعر بها حيّة في وجدانه نابضة بالحياة، لاسيما استخدم العصف للريح واللطم للأمطار، بما يوحي الفعلان من الشدة والقوة والعنف، مدللا على ذلك بكلمة (الريح) التي تعني الهلاك والدمار، بخلاف كلمة (الرياح) والمراد منها البشرى والتفاؤل، كما استعار كلمة (الطغيان) للنهر، الذي وصف بالهدوء فكان حيوانا خرافيا بغية التهويل والتخويف، ناهيك عن (فاء) العطف في كلمة (جرفت ) التي تدل على الترتيب والتعقيب في سرعة دون التراخي أو الإمهال. في هذا المقطع السردي التصويري نجد أنّ اللغة الروائية تمّ توظيفها فنيا لخدمة المشهد العام وهو الفيضان، من خلال وصف النهر المزمجر الذي لم يبق على كائن من كان من إنسان أو حيوان أو نبات، فجاءت الأفعال متمة للمشهد الدماري من عصف ورشق ولطم وهدم وجرف ووحل ثم أعمام وأغمام. فهذا النوع من الإيثار لكلمات دون غيرها مما يشترك معها في نفس المعنى يعد أكثر تعبيرًا وأفضل انسجامًا مع المعنى المقصود، نخلص من ذلك أنّ الصورة السردية التي تطلق على الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات، بعد أن ينظمها الراوي في سياق بلاغي خاص، ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الإنسانية، مستخدما طاقات اللغة وإمكانياتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من أساليب التعبير الفني ومحسنات الكلام البلاغي، تخلق حالة من الإيهام بالواقع ومشاكلة الحياة، والمباشرة في ذهن القارىء، بحيث يعطي ذلك انطباعا بالمشاركة الفعلية للقارئ، ومن هنا لا يشعر المتلقي أنه يقف مع الراوي فحسب إنما يتماهى معه، فهو الراوي أو البطل في خياله يعاني مثله، ويحس بإحساسه، ويتمثل أفعاله ويقتدي بأقواله. أمّا فيما يتعلق بالحوار في النص الروائي فقد اختلف النقاد والأدباء بصدده مذاهب شتى؛ لكل واحد منهم أدلة وبراهين يستند عليها في تأييد موقفه، وهذا ما سنستعرضه لاحقاً بمشيئة الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *ناقد وأستاذ جامعي سوداني، عضو لجنة التحكيم في جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم