تمهيد: تعالت الأصوات الروائية في الوطن العربي في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للانتباه، وبرز على ساحة الكتابة الكثير من الكتاب الشباب المبدعين حاملين لواء التجديد السردي أو منضوين تحت طائلة السرد التقليدي. كما تعددت موضوعات الرواية الجديدة واختلفت بين التطرق إلى الواقع أو الإبحار في الخيال، وقد اقتحمت الروائيات العربيات كل الموضوعات وتميزن بقراءة الواقع بتفاصيله وهمومه دون خوف من الولوج إلى القضايا الساخنة أو الحرجة التي تخص المرأة أو تخص العالم ككل.

فتنة الموضوع وانحراف لغة الكتابة:

"لمياء السعيد" تقتحم عالم العجائبي بنفس قصير، وتعلن في الوقت نفسه أنها تحكي الحقيقة الكاملة عن عالم بشري سفلي مختلف في تفاصيله عن العالم العلوي، وقد توسلت إلى ذلك قصة (تربي) شبه مثقف عمل على دفن الجثث كما دفنت الحياة أحلامه باكرا، ثم تاجر بالجثث كما تاجرت المحن بأحلامه أيضا، ليصل في النهاية إلى حبل المشنقة فيدفع ثمن وجوده الذي لم يختره بين الأموات ويدفع ثمن اختراق حرمة الموت وتحويل المقابر إلى مواخير، تاركا وصية لابنه الذي لم يشاركه تلك الحياة، آملا أن يفهم دوافعه وأن يقوم بدفنه كما دفن هو والده سابقا.

(رفع الخال الغطاء المؤدي إلى المقبرة، فوجد محمود يجلس ملتفا بالكفن وقد تغير حاله كثيرا، كأنه كبر مئة عام وفي حالة إعياء شديدة حتى أن الشيب عرف طريقه إلى رأس ابن الأربعة عشر عاما) الرواية ص 43.

(نعم، أنا أرى أشباحهم أو عفاريتهم أو أي كان ما يسمونها. إنهم يسيرون معي بالطرقات. فأراهم أحيانا جليين أمامي في شكل قطط تسير ليلا، وتحوم حولي محاولة إخباري قصص أصحاب تلك الأرواح، وأحيانا أراهم أطيافا، تمر سريعا ولكن إن حدثت واخترقتني يوما، كنت أجلس أرضا فيضيق صدري وأشعر كمن شل شللا مقتا، فتوقفت جميع وظائفه) ص 55.

(وأقسم لك يا ولدي أنني وأمك كنا نسمع صراخها كل ليلة، وتوسلاتها لزوجها أن يرحمها هي وطفلها، ولم تكن تهدأ نهائيا، وكان يسمعها كل من يسكن بجوارنا، ولم تصمت رغم إحضاري عشرات الشيوخ، فهي روح هائمة غير مرتاحة، ولكن ذات يوم لم نعد نسمع صوتها، فقد صمتت قبل الفجر بقليل، ولم نصدق أنفسنا...) ص 56.

(في الترب تشوف العجب، حاجات ولا كان عمرك تخطر لك على بال حتى، وأنا شفت كثير اوي، بس في حاجات من بشاعتها وإنها عايشة معاك يوم بيوم ممكن تتعود على كل حاجة إلا الحاجات دي، ومن ضمنها إنك تشوف أطفال بتطوف وتلف في الترب طول الليل، تخبط على كل البيبان، وتنادي على الأطفال يطلعوا يلعبوا معاهم بره الأحواش، ومحدش بيفتح لهم أبدا، الناس بتكتفي إنها تبص عليهم من ورا الحديد، والرعب مالي قلوبهم على عيالهم اللي بيندهولهم بالاسم، وكل ليلة أول ما يبدأ الندهان زي النداهة اللي كنا بنسمع عنها في الحواديت، يجوا بعد الساعة اتناشر، ويندهوا، مش قولتلك: الترب مسرح كبير، ويبدأ فيه العرض بالليل، يبدأ الرعب، والأطفال دول كانت حكايتهم غريبة أوي، كل اللي يعرفها يبكي على حالهم) ص 61.

الرواية منشورة عن دار (أطلس) وتشير الكاتبة في بدايتها إلى أن مدير الدار هو صاحب الفكرة وهو المشجع على كتابتها، تقع في (235 ص) من الحجم المتوسط، موزّعة على (23 عنوانا) بعد الإهداء والمقدمة، كل عنوان يحكي جزءا من الحكاية الكاملة للبطل (عادل).

تأخذ الرواية أولى علامات الانحراف الدلالي من خلال تصنيفها كرواية في حين أنها تنحاز لخصائص القصة أكثر من انحيازها للرواية، هذا التصنيف يجعل دراستها تقع على حافة الاتهام والانتقاص، أو ربما يمكن أن نلحقها بالتصنيف الغامض المستحدث لهذا النوع من النصوص المعلّق بين عالمين سرديين هما (القصة، والرواية)، فنطلق عليها تسمية (الميني رواية)، إلا أنها تميل أكثر إلى الحكاية الشعبية بسبب لغتها وأسلوبها من جهة وموضوعها من جهة ثانية، وفي هذا يقول "عبد الله إبراهيم": (لعل إحدى القضايا الدائمة الحضور في مجال نظرية الأدب، هي العلاقة بين النصوص الأدبية والنوع الذي تنتمي إليه، فثمة جدل طويل بين ومشعب حول ماهية تلك العلاقة ظل قائما منذ أرسطو إلى الآن).

واستنادا إلى رأي "كروتشيه" القائل إنه: ( ما من أحد يجهل أن التاريخ الأدبي مملوء بالحالات التي يخرج فيها فنان عبقري على نوع من الأنواع الفنية المقررة فيثبر اتنقاد النقاد ثم لا يستطيع هذا الانتقاد أن يطفئ إعجاب الناس بهذا الأثر العبقري... فما يسع الحريصين على نظرية الأنواع إلا أن يعمدوا إلى شيء من التساهل فيوسعوا نطاق النوع أو يقبلوا إلى جانبه نوعا جديدا، كما يقبل ولد غير شرعي، ويظل هذا النطاق قائما إلى أن يأتي أثر عبقري جديد فيحطم القيود ويقلب القواعد)، ولهذا فالقول بشرعية التسمية بالنسبة إلى هذه الرواية التي لقيت صدى واسعا واحتفاء قرائيا مميزا ليس مجال دراستنا هذه.

لكن السؤال الذي يلح على القارئ الكلاسيكي، أو على القارئ الجاد هو: هل يمكن أن يكون الانحراف اللغوي المبتذل أحد أنواع العبقرية للخروج عن السائد وكسر المألوف، أم هو سذاجة وجهل وتعسف لغوي يأبى اللسان العربي السليم قبوله حتى على سبيل الاعتراف به كمولود غير شرعي لأنه مولود مشوّه وخطير، صادم للذوق ومفسد للغة العربية ؟

إن انتهاج الكاتبة اللغة المصرية العامية لكتابة الرواية ليس عيبا في حد ذاته، ويمكن للناقد أن يغض الطرف عنه باعتباره أداة للتواصل بين مواطنين عرب في مساحة جغرافية معينة، يحق لهم فيها التخاطب بلسانهم اليومي على سبيل التظافر الدلالي للوظيفة الإخبارية والتأثيرية لاستفزاز المتلقي، وهي ظاهرة يقر بها بعض النقاد ويستعملها كبار الكتاب لأنها كما يرى "عثمان جلال" (أوقع في النفس عند الخواص والعوام) ويعلل ذلك "يعقوب صنوع" و"محمد تيمور" بالقول: (أن الناس طبقات، فليسوا متساوين في المعرفة باللغة الفصيحة)، كما يشير "جون كوين" إلى (أن الدارجة تخلق تموّجا في التشخيص اللغوي قوي الدلالة، وهي بذلك بمثابة عنصر إضاءة متفردة للذاكرة الشعبية، ولصور اختزانها للحدث وتفاعلها معه وإنارته روائيا بعد ذلك).

كل هذه الآراء المسوغة لاستعمال لغة أسفل درجة من اللغة الفصحى يمكن أن تقبل حول هذه الرواية لو أن الكاتبة اعتمدت العامية من بدايتها إلى نهايتها، غير أنها لم تفعل، فقد انطلقت في الكتابة باللهجة المصرية العامية الصرفة من منتصف الرواية تقريبا، قبل ذلك كانت تراوح بين العامية والفصحى المجروحة التي تأبى الموت على يد روائي ناشئ ويأبى هو إلا أن يدفنها حية بين الموتى، فهل أرادت "لمياء السعيد" أن ترتكب حماقات (التربي) نفسها في حق العربية وأن تسلم من مشنقة النقد جزافا؟

إن السقوط في دائرة الإسفاف اللغوي في الكتابة السردية الجديدة ليس خطأ شخصيا ترتكبه هذه الكاتبة فقط، بل إنه يكاد أن يتحول إلى جريمة عامة يدّعي مرتكبوها أنها لا تنقص من جمالية النص وخيال صاحبه وقدرته على الإبداع، غير أن هذه الذريعة مردودة على أصحابها فكم من النصوص المهمة التي خانتها اللغة السليمة فأهملها القارئ وعاف إكمال قراءتها، تلك الأنواع من النصوص لا يمكنها أن تستمر طويلا أو تنتشر بالقدر الذي يجعل منها ملمحا إبداعيا جديرا بالبقاء، كما أن الضعف اللغوي لم يكن من سمات الكتابة الروائية أو الشعرية الرائدة في الوطن العربي ولم يكن الكتاب يتذرعون بذرائع الجيل الجديد في الكتابة الذي لا يريد أن يتفهم ضعفه أو يحاول إصلاحه، تعينه في ذلك دور نشر مطلبها الأول المكسب المادي.

وكإحصاء بسيط للأخطاء اللغوية التي وردت في الرواية نورد هذه الأمثلة:

  • (لتضيف إلينا زائر صامت جديد) ص 22.

  • (خلافا لأخواتي فقد كانا بالمنزل لم يخرجا من المقابر إلا بصحبة أمي لشراء مستلزمات لهم كل بضعة أعوام، فلا أذكر أن رأيتهم خارج إلا بضعة مرات، حتى لم تكد أي منهن تصل السادسة عشر إلا وخرجت مع أمي لتشتري لها مستلزمات عرسها) ص 23.

  • (فهي ستنتقل إلى حوش آخر ليس إلا لتبدأ شكل آخر من الحياة... والكثير من الملابس السوداء لتتشح به حتى دون حزن...حفل المفروض أن يطلقوا عليه عرس) ص 23.

  • (مما سنحرصهم؟) ص25.

  • (لكن سرعان ما يهجروه ويضيقون ذرعا بتلك الحياة، ويتملكهم الخوف والهلع من المكان، فترحل إلى غير رجعة) ص 27.

  • (أو منهم من أحب الحياة هنا، وامتهن المهنة وأصبحوا مثل أهل القبور) ص 28.

  • (ولكن يعتبره ابن لي وليس له) ص 28.

  • (مع رحيل العجائز رحلت معهم مهنة المعددة) ص 29.

  • (كل وظيفة تطلب سائق) ص 29.

  • (وتقول أني أرى أناس من حولنا يطوفون بأشكال مختلفة) ص 39.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة من الجزائر - جامعة تبسة.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم