بعد "يوميات يهودي من دمشق" روايته الأولى، ينتقل الكاتب إبراهيم الجبين إلى الحديث عن دمشق نفسها، في روايته الجديدة "عين الشرق" وهي الصفة التي أطلقها الرومان على دمشق التي "كان يفترض بها أن تضخّ كمّاً هائلاً من المعارف في جسد الثقافة العربية والعالمية، لكنّها كانت مشغولة بالفتك ببعضها البعض، وربما بتدمير ذاتها آليا". وذلك بحسب ما جاء في الرواية.

وكانت رواية "عين الشرق" قد صدرت حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وفيها يقول الكاتب: "لا يمكنك أن تعيش في دمشق دون أن تلفك غلالة التاريخ، لا تاريخها فقط بل تاريخ العالم، حتى تصبح الحكواتيّ والمستمع في الوقت ذاته،لا تقرأ التاريخ لتعلم، لكن لتصغي إلى همسات تأتي من كل شبح يرفض مغادرة المدينة، منذ أن تركت روحُه جسَده فيها".

من الإنصاف القول: إنّ رواية "عين الشرق" الجديدة للكاتب إبراهيم الجبين اكتسبت أهمّية مضاعفة من فائض الدلالة الذي يحيط بالمكان حالياً، ولكنّه من الإنصاف أيضاً القول بأنّها، في مضمونها، شاهد يرقى إلى مرتبة الوثيقة الاجتماعية والتاريخية للمآلات والسياقات الفاعلة والمنفعلة معاً، والتي أوصلت البلاد للحال الراهن.

اعتمد الكاتب إبراهيم الجبين أسلوب المنمنات الصغيرة لرسم اللوحة الكبرى لتلك المدينة "دمشق"، ومن خلال المنمنمات رصدت الرواية بعمق طبيعة العلاقات الخاصة والعامة المكونة للفضاء الأوسع، كما رصدت مجرى التحوّلات النفسية لشخوصها، ضمن إطار يتساير فيه الحدث المعاصر مع التاريخي في جو من التآلف حيناً والتناقض أحياناً أخرى. وفيه تتحرك شخوص الرواية مدفوعة بالبحث عن مصائرها شبه المعروفة سلفاً، ضمن سجن كبير هو المدينة، ويرمز له حضور سجن القلعة التاريخي الموجود في قلعة دمشق. تتحرك الشخوص ضمن سردية ثنائية المنحى، فمن إفصاح إلى حدّ البوح يتشكّل استبطان عميق يلفّها، ليغدو ما قالت وما لم تقل فعلاً تأسيسيّاً لجديلة واحدة تشكل الجوهر المقصود. ساهمت تلك السردية في رسم الصورة الحقيقية لدمشق الجاثمة فوق صدر الجميع بوصفها قدرا أعلى، ويظهر ذلك من استنطاق أدق التفاصيل في شوارعها وحواريها ومكاتبها، وصولاً إلى الحجارة المنسية في مبانيها.

تتسلّل الرواية من الحدث اليوميّ المعلن لشخوصها إلى التاريخين؛ السرّي والمكتوب للمدينة، لتربط بينهما عبر خيط زمنيّ يتصاعد حيناً ويتكسّر أحياناً ليعود بنا إلى لحظات التأسيس الموازية. وعبر لعبة تعدّد الأزمنة تتجاور الشخوص في الرواية وتتحاور من ابن تيميّة إلى الأمير عبد القادر الجزائري إلى الطاغية العجوز الممدّد على سريره، ومن حنّا يعقوب مؤسّس المدرسة السريانية، مرورا بأدونيس " علي أحمد سعيد" إلى زميله في الشعبة الثانية العجوز الرسّام ناجي إلى ستناي الشركسية، وكثيرين آخرين، منهم حضروا بأسمائهم المعلنة ، ومنهم بالأسماء المستعارة.

وبالتوازي مع أسلوبية المنمنمات، استخدم الكاتب في "عين الشرق" تقنية الأزمنة المتعدّدة لحكايات وأحداث تدور في دمشق، أو تصبّ فيها، متعمّداً الدمج بين الخيال والواقع في لعبة فنّية عالية تجعل من الصعب الفصل بينهما لتحديد ما هو واقعيّ أو خياليّ ليقول في الرواية ذاتها: "بعض ما يحدث مع أي شخص من سكّان الشام يشبه الكذب، وبعضه الآخر يشبه الأحلام، في كل دقيقة تمر عليه تنمو أعشاب من القصص ونباتات تتسلق بسرعة نحو الفراغ تلفه وتغطيه ليصبح هو تفصيلا من تفاصيلها، وليس مركزها وراويها، وحين يرويها، لا يرويها، بل يخبر عنها ما أذنت له أن يراه منها، فتضيع الحدود بين ما يعرفه وما حصل في الواقع".

انهيار النخب الثقافية والفكرية لمعظم مثقفي تلك المدينة هو العنوان الأبرز للرواية ضمن التحوّلات الحاصلة لشخوصها، ولكنه لم يكن إلا ستارة لما يخفيه ذلك الانهيار الحاصل، وتأكيداً على قصديّته الواعية ضمن عملية تجريف للإنسان والتاريخ، فتحلل النخب المثقفة وانحطاطها لم يكن معزولاً عما يجري في الأوساط الأخرى، ولم يكن حدثا تلقائياً أيضاً، كان مدفوعاً بفعل قوّة تتحرّك في الظلّ ساحبة كلّ المآلات إلى هندسة الخراب العام المقصود، وهذا ما يشير إليه الكاتب بقوله في الرواية: "كان السياق الوحيد المتماسك هو السلطة، وان لم تكن منها فأنت هدف حتما".

رواية "عين الشرق" للكاتب إبراهيم الجبين، عمل فنّيّ اجتمعت فيه عين الصحفيّ وعقل المثقّف وقلب الشاعر وشغف العاشق، لترسم لوحة معاصرة عن مدينة هي أبعد من حدودها الإدارية وأبعد من مسمّاها، لتشمل محيطا اسمه الشرق ابتداء من عينه: دمشق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

  • كاتب وشاعر من سوريا

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم