"خيامُ المنفى" تَسْترجِع ذاكرةَ الجزائر
حيثما كُنتَ في جهات الأرض فإنّ قراءَتك روايةَ "خيام المنفى" للكاتب محمد فتيلينه (دار بغدادي- الجزائر 2016) تحملك إلى مدينة صغيرة بالجنوب الجزائري تُسمّى "حاسي بحبح"، وتَحُطّ بك الرَّحَلَ في سوقها الأسبوعيّ الذي تأسّس في ثلاثينات القرن الماضي، فيهرع إليك "عَلاوة"، وهو المشرف على تحضير أطيب القهوة، ويقدّم لك قهوة أو شايا، فتُغريك حكايا الجُلاّس الخفيضة في تتبّع أحوال أبطالها، فإذا أنت تَنْسَرٍب إلى كلّ حكاية منها، أو هي تنسرب فيك، سيّانَ، لتصيرَ منها مفردةً من مفرداتها منذ زمن الاستعمار إلى السنوات الأولى من هذه الألفية الجديدة.
جعلت الروايةُ من سوقها بُؤرةً تُشَدُّ إليها أمكنةُ الناس بحبال انكساراتهم وانتصاراتهم في خيامِ مدينة "حاسي بحبح"، واختارت من أهلها شخصية "تُرْكي" ليكون حضوره في النصّ استدعاءً لتاريخ جزائريّ غائبٍ عن المتون الرسمية، هو تاريخ مدينة يحكمها المستعمِرُ الفرنسيُّ بكنيسته وجيشه ولغته وناديه الليليّ، ويحكمها نظام قبليّ يمنع الحبَّ، ويُعاديه. تعرّف تركي الشابة "عربية"، وهي ابنة قائد المدينة المتعاون مع المستعمر، فأُغْرِم بها، وراحا معا يتحايلان على أنظمة "حاسي بحبح" الأخلاقيّة الصارمة، فكان لقاؤهما يتم في السوق: تأتي عربية في شكل عجوز تعرج، فيهبّ لها تركي ليساعدها على المشي، ويُبعدها عن أعين الناس، وهناك تتعانق روحاهما. غير أنّ الحسد دفع بأحدهم إلى كشف هذه الحيلة، ما جعل القائد يطلق الرصاص على تركي، فلم يصبه وأصاب ابنتَه فقتلها ودفنها في مكانٍ مجهولٍ. هذه الحكاية، وما انجرّ عنها من مآسٍ جمّة منها مثلا قتل والدة القائد له انتقاما لحفيدتها، ظلّت عالقة بأفواه سكان المدينة تتناقلها خُفية من جيل إلى جيل، ويُخيف بها الأهل شبابَهم حتى لا يقعوا في المحظور، ذلك أنّ مأساة عربية لم تنته عند قبرها المجهول، وإنما وُلِدتْ مع ميلاد الشابة "التاليا" وهي ابنة أخت عربية ذاتها، حيث حاول خطبتَها الشابُ عمر، فإذا به يُوجد مقتولاً. ثم لا تنسى الرواية ذكر مآسي الشباب الجزائري الذي أجبرته فرنسا على المشاركة في حروبها ضدّ ألمانيا النازية، حيث نعرف من سيرة الشاب "سالم" الذي خاض غمار هذه الحرب صُورًا مريرة من عذابات مواطني المستعمرات الفرنسية.
أحيانا تجد نفسك مُجبرًا على التوقّف عن قراءة رواية محمد فتيلينه وإغماض عينيْك لترى وجه "تركي" بوجهه الثمانينيّ وهو يُعالَج بالمشفى جراءَ سقطة بالسوق (إغماض العينيْن يعني جعل الصورة تتكلم في صمت- بارت)، تراه حاملا لجرحٍ عِشقيٍّ لم يندمل، "تنسج ذاكرة تركي صور الحياة في الجزائر العميقة، ويستحضر معها تبدّل ملامح المكان، وأمزجة أفراده وعاداتهم. ويعيش على ذكرى من أحب في الخيام المزروعة بالقرب من سوق المدينة منذ ثمانين عاما"، وإذ يفعل ذلك لم يقدر على نسيان حبيبته "عربية" حيث ظلّ يعيش بذكراها وحيدًا، يؤثّث فراغ وقتِه بإفراغ ذاكرته بين يديه وتملّي أحداثَها داخل مقهى السوق الذي "يبرز كمكان للتجربة الإنسانية وتعاملها مع ملتقى النفسيات. تتلاقى داخله مصائر شخصيات بدوية وحضرية، ضمن أجواء السيطرة الفرنسية".
ومما يمكن ذكره بخصوص رواية محمد فتيلينه أنّها تتضمّن "فصولا تنبش الذكرى المغمسة بصور الأهل والراحلين وحياة البداوة المليئة بالجلد والمرارة، وأخرى تصوّر بشاعة الاستعمار وجوره من مضارب البادية الجزائرية إلى الشمال الأوربي مرورا بالشام تتلاقح التجارب الإنسانية، وتذوب كلها داخل النص عبر صوت آخر، يبعث بالخيام نحو منفى آخر هو الحرب العالمية الثانية. تعود الأحداث لتتلاقى من جديد، عبر لسان السارد المتأسي بالذكرى والحب والألم والحنين، وتذوب الأحداث والشخصيات داخل خيمة في سوق البلدة البدوية، لتختصر تجربة "تركي" ومعاناته التي تشكلت على مدار أكثر من ثمانين عاما، تجربة الجزائر بخيامها وأهلها، وبقاء مرارة القيد في أعماق كل ما عاش الحرمان والحبس، ولم يع بعد أن الحرية لا تزال هناك في المنفى البعيد. خيام المنفى هي لسان الجزائري، منذ الطفولة وحتى أرذل العمر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن صحيفة القدس العربي
0 تعليقات