إذا كان وحيد الطويلة قد بدأ روايته ‘‘حذاء فيلليني’’ بإشارةٍ إلى الصوت فسوف أبدأ من حيث اختار أيضاً، ومن المؤكّد أنّ كلينا يبدأ من حيث اختارت المشيئة الإلهية.. اختار الطويلة للبطل ‘‘مطاع’’ والذي سوف يحوّل القهرُ اسمه إلى ‘‘مطيع’’ صوتاً بطبقةٍ واحدة لا تتغيّر، هو الذي يقول: "لا أستطيع أن أرفع طبقة صوتي، أن أعبّر به عن الفرح أو الحزن أو الصراخ به في كلتا الحالتين يبدو أنني قلتها بطبقةٍ واحدة بنفس الطريقة والتون في كل المرات السابقة مثل امرأة تنام تحت رجل لا تبالي به هو غارقٌ في غيّه وهي تتفرج على التلفاز من خلفه وتصدر صوتاً واحدا كي تكتمل اللعبة". قديماً في الفاتيكان، كان الحصول على صوتٍ ذكوري حاد لتأدية الترانيم في الكنيسة من المعضلات الكبرى، فكيف يبقى هذا الصوت الملائكي غير منقطع دون أن تحوله هرمونات الذكورة الغليظة فيفقد جماله وحلاوته وتأثيره على القلوب؟ ربما من وجهة نظر من يقرأ يكون الحل بسيطاً: النساء يقدرن على ذلك بدلاً منهم.. ربما كان كلامك صحيحاً عزيزي القارئ ولكن فُسّرت قديماً رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس: ‘‘لتصمت نساؤكم في الكنائس’’ على أنها بمثابة تحريمٌ لأي إنشاد كنسي للإناث، فكان الحل الوحيد هو إخصاء الذكور لإبقاء الصوت على ما هو عليه! إخصاء لأي محاولة للتغيير.. الذي هو مشيئة إلهية في حد ذاته.. فإذا كنّا هنا بصدد روائي بهذا القدر من الوعي وهو يقوم بتصوير بطل فقد رجولته على مهلٍ في غرف التعذيب لا بدّ أن نتوقف لديه وننتبه لما يقول.. الأمر الذي جعله يفكّر في الانتقام من الضابط المتقاعد بطريقة مماثلة وهي قطع عضوه الذكري ثم يفيق على أنه ربما فقد رجولته ولكنه لم يفقد إنسانيته بعد فسامحه.. وتخيّل قتله فقط بيد زوجته في فيلم يخرجه فيلليني. "أنت لا تريد أن تتشفى فيه ولا تتصور موته لا تتخيل زوال أمثاله من العالم انتقاماً بل خلاصا لروحه من الهوة القذرة التي سقط فيها حتى صارت صخرة سوداء".. كانت نتيجة ذلك أنني قرأت الرواية من البداية إلى النهاية على خلفية غناء طفل يقف في جوقة بصوت خيالي يشبه الكولوراتورا سوبرانو، يُخصَى في نهاية كل فصل! المشكلة أن الأديب اختار بطلاً شاميًّا يرفض في البداية التصريح بجنسيته للقارئ ويكفيه أنه عربي فقط لنعرفه جيّداً أو لنعرف ما فُعِل به جيّداً.. وكونه من الشام – كما سيُكتشف - جعل حنجرة إبراهيم قاشوش المقتلعة أمامي ونزيفها بين دفتي الرواية من جهة ونهر العاصي من جهة أخرى.. المشكلة أن فيلليني نفسه أحبّ الغناء، وصوته كان جميلاً في الصغر، ليس فيلليني فحسب بل أغلب الطليان أصحاب جينات لأصواتٍ جيدة، وعندما تفوّق أخوه ريكاردو عليه في ذلك آثر الصمت وقال: أحاول التهرّب من الغناء فأحرك شفتي فحسب لكنني لم أفتقد الغناء مطلقاً.. أجل فيلليني لم يفتقد الغناء لأن (فيلميني) هذا كان يغني بالسينما طوال الوقت.. هل يعرف القارئ أن صانع تلك الرواية مطربٌ أيضاً ويمتلك صوتاً عذباً؟ بل ويقول إنه يغني كتابةً؟ الكاتب هنا إذاً يضغط على الجُرح المفتوح ويسكب عليه ملحاً وهو يعرف نقاط الضعف والقوة تماماً.. حيث تماس الحكايات بين أزمنة وأمكنة وبشر مختلفين الصوت وحده يجمّعهم.. وبرغم تعدد الأصوات التي تحكي في الرواية فالملاحَظ بقوة بين تلك الأصوات هو هذا الإيقاع الواحد الذي له طبقة صوت مطاع أو مطيع نفسها.. برغم اختلاف الأصوات تماما بل وتنافرها واختلافها فمع نهاية الرواية ستشعر بوحدةٍ ما تجمع الجلاد والضحية وما بينهما في آن واحد. "على الجلاد أن يجد حقيقته يا مطاع وليس حقيقة الدور الذي مثله وحين يجدها سيحقق السيطرة على الوهم الذي عاش فيه وقتل الناس به". "أنت كنت تصدر الأوامر إليه كأنك تصدرها لنفسك..". الأمر الذي يفسّر مقولة فيلليني التي بدأ بها الطويلة روايته: "اسحب ذيلاً قصيراً فقد تجد في نهايته فيلاً..". يبدو أن الطويلة في "حذاء فيلليني" يتبع الإشارات ويجمع الخيوط كمحقّق يريد أن يصل في النهاية إلى الفيل، الروائي الذي كتب عن تفاصيل لا تُروى ولا يعرفها سوى مَن عاشها أو كان قريباً منها، كتب على لسان الديكتاتور والجلاد وضحاياه وشيطانه ومساعده..

لماذا فيلليني ؟

"الدنيا كلها تعرف السيد فيلليني يا سيدي إنه رفيق أممي نحن نرى أفلامه وندرس شخصياته وكيف يتعامل معها فيلليني شاعر وليس مخرجاً فقط يا سيدي". فيلليني هذا الكيان الأروع في تاريخ السينما، والذي عندما مات قال عنه في حفل التأبين رئيس الوزراء كارلو شيامبي: إن إيطاليا فقدت (شاعرها القومي العظيم) كانت معرفته ومشاهدة أفلامه ومعالجتها إحدى التهم الموجهة لمطاع، وكم بدا البطل مستغرباً من تلك التهمة. كان يبدو أن فيلليني ليس موغلاً أبداً في السياسة بل ومواقفه السياسية تشوبها الغموض، وذلك بحسب ما قاله أندريه مينوز في كتابه عنه، كان يقف إلى جانب الجمهوريين والاشتراكيين على السواء ولم يصوّت إطلاقاً للحزب الشيوعي رغم وجوده في الصف الأول عند تشييع جنازة إنريكو بيرلنغي السكرتير العام للحزب الشيوعي الإيطالي وقد أقر بتصويته للحزب الديمقراطي المسيحي والذي كان صديقه جوليو أندريوتي المولع بشكسبير أحد أعضائه. فهل كانت سينما فيلليني فعلاً بعيدة عن السياسة؟ الأمر الذي ينكره أغلب المحللين والنقاد، إن أفلام فيلليني تعمل على تحويل الخطاب السياسي إلى عالم الحلم والخيال دون أن يتحدث مباشرةً عن السياسة، لغة فيلليني السينمائية مموهة وغير مباشرة.. ولكنها أيضاً لغة إنسانية من الطراز الأول.. الفن يجب أن يكون كذلك.. هل فيلليني رمز أراد الطويلة أن يستخدمه ليعبر عن خوف السلطة من الفن الخالص الذي يمتلك أدواته ويستطيع أن يصل إلى القلوب والعقول؟

لماذا حذاء فيلليني وليس قبعته؟

"أنت على الحافة في منطقة الأعراف أنت لا تعرف معنى أن تغطس إلى قعر البئر وحذاؤك كبير كحذاء فيلليني". المنتحرون الجادّون لا يفكّرون كثيراً قبل قتل أنفسهم،لا يودعون ذويهم ولا يخبرونهم بنواياهم لا يخلعون ملابسهم ولا أحذيتهم، كلما ازداد ثقلك سهل غرقك.. القريبون من الموت، الواقفون على حافته لا يخيفهم شيء بعد هذا، لقد أخذوا نصيبهم من صواعق الدنيا، حتى لو غافلوا الموت ونجوا فلن يخيفهم شيء.. لماذا كان فيلليني –الضخم- يصوّر نفسه صغيراً وضئيلاً في رسوماته؟ بحيث يقترب من الأقدام والأحذية؟ أراد الطويلة حذاءً كبيراً يتّسع لقذارة العالم وقهره وظلمه وحكّامه، وربما يعبّر العنوان عن رغبة البطل الحقيقية في تبادل الأدوار مع فيلليني والذي نفذ قتل جلاده في النهاية.. ربما أيضاً كان محاولة لإعادة بناء للانسان من أسفل، من الحضيض.. السخرية التي تحيط بكل ما له علاقة بالأحذية وقريب من الأرض، والتي هي في الأساس منبت الانسان.. من حكم الهنود الحمر أنهم يعلمون أولادهم ألا يبصقوا على الأرض لأنهم بتلك الفعلة يبصقون على أنفسهم..

لماذا نساء فيلليني؟

"كأنك في فيلم لشيّ الشهوات وتم تكبير الصورة على مهلٍ، مؤخرة لامعة ولا تقل لي إن الجونلة ذات اللون البيج هي من منحتها اللمعان بل قل إن لمعانها المتوحش الرجراج هو الذي منح لونه وروحه للجونلة (مؤخرة جليلة) هذا ما يمكن أن تقوله عنها بأدب وأنت تفتش بلوعة عن الوصف المناسب". الرجل العاشق للنساء والذي تقول عنه مساعدته لم تلتقِ امرأة بفيلليني إلا وأحبّته، كان يرسم النساء كبيرات في لوحاته، بنهود ومؤخرات عظيمة ويرسم نفسه ضئيلاً أمام كل هذا، فيلليني يجسّد المرأة بشكلٍ مقدّس ويبرز مفاتنها.. فيلليني هذا ظل طوال حياته يبحث عن رائحة اشتمّها لأول مرة في ملابس فتاة رقيقة الحال عملها هو تقشير البطاطا للحساء اليومي، كانت رائحة قشور البطاطا الممتزجة بالحساء هي الرائحة السحرية المثيرة للشهوة ويقول أنه جرّب كل العطور الفرنسية التي صُنعت للإغراء ولكنه لم يشم واحداً منها مغرياً مثل تلك :رائحة قشور البطاطا! تعمّد وحيد أن يصوّر نساء (حذاء فيلليني) بصورة مكتملة أنثويّاً، بشكلٍ يجعل القارئ يستكثرهن على أي رجل، تماماً كما كان يرى فيلليني نفسه أمامهن.. الروائي هنا برع في تصوير ما يخص الأنثى من جميع الزوايا، ولخّص الكثير من الانتهاك الذي يقع في حقهن بفعل خِناث لا يقدرون على إشباعهن أو حمايتهن.. هناك العديد من المقاطع الشعرية الخالصة على لسان الرجل والمرأة على السواء.. وبهذا نكون قد وصلنا إلى استنتاج هام وهو بأن الكاتب استطاع توظيف فيلليني نفسه ليحقق العدالة التي تُشفي الصدور ولو بشكل تخيّلي كما يحدث في السينما. أخيراً، رواية (حذاء فيلليني) من أهم الروايات العربية الصادرة لهذا العام، وكاتبها وحيد الطويلة يثبت مجدداً أنه صوت روائي فارِق يكتب بوعي ووجدان، أصيل ويمد جذوره، الرواية تستعصي على النسيان وتبرهن أن أدب وحيد الطويلة سوف يحيا طويلاً.. ـــــــــــــــــــــــــــــ

  • ملحوظة: شكر وامتنان إلى الكاتب الكبير حمدي عبد الرحيم أول مَن نصحني بقراءة (أنا فيلليني) منذ عدة أعوام.
  • الاقتباسات من رواية "حذاء فيلليني" للروائي المصري وحيد الطويلة، والرواية صادرة عن منشورات المتوسط 2016م.

كاتبة وروائية من مصر

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم