"يوسف مارينا: الحكاية": قد يبدو من الضروري الاهتمام باسم الشخصية الرئيسية في هذا العمل "يوسف" وهو اسم دال ولم يكن اختياره اعتباطيا فقد درج الكتاب والشعراء على استحضار شخصية يوسف ذات البعد الديني لتكون تعبيرا عن العذاب والشعور بالظلم والإقصاء بين إخوته وهي أبلغ صورة للتعبير عن الاغتراب وهو ما لم تنحز عنه شخصية يوسف مارينا في الرواية، حيث جاءت حاملة لملامح شخص يعيش الغربة والاغتراب، محيلة المتلقي على دلالات مختلفة، وفاتحة نوافذ تجوال عديدة في أماكن ومواضيع مختلفة، ففيها نوع من الشهادة السياسية على بدايات الدولة الجزائرية المستقلة، وعلى ظاهرة العنف الديني في أوروبا وغيرها، كما تحمل مواقف فكرية عديدة منها ما تعلق بالأدب والفن، ومنها ما تعلق بالحياة وبالحرية. وفيها نوع من السيرة الذاتية للكاتب واسيني الأعرج حسب ما تشير إليه إحدى نصوص العتبات وتحديدا تقديم الناشر. والحديث عن دلالات الاسم لا يقف عند هذا الحد فالشخصية الرئيسية تعيش اغتراب الاسم نفسه ذلك أن الاسم الحقيقي ليوسف هو "محيميد" وهذا ما يدعم التوجه نحو محاصرة مظاهر الاغتراب في هذه الشخصية التي ترسم من جديد صورة المناضل والمثقف السياسي المغترب والذي يبذل ليجد نفسه أمام تناقضات هي تناقضات الواقع العربي وتجاذباته وانعكاساته . وبقطع النظر عن دلالات الاسم الحقيقي أو المصطنع فهذه الشخصية تلفت الانتباه في حكايتها التي تم تقديمها وسردها في الرواية حيث ينطلق صراع يوسف مارينا، وهو ابن الشهيد المقرب من المناضل المعروف في الثورة الجزائرية الرئيس أحمد بن بلة لحظة الانقلاب على هذا الأخير من طرف هواري بومدين وأصحابه العسكريين، حيث وجد يوسف نفسه يعمل مع مجموعة سرية للدفاع عن الرئيس بن بلة الذي سماه في الرواية بـ"الريس بابانا" انطلاقاً من تسمية شعبية جزائرية له فيها الكثير من الحب والحميمية، وساهم بالكتابة في إحدى النشريات السرية بمقالات مثيرة لفتت انتباه الرأي العام، ولاقت رواجا وأزعجت السلطة الجديدة التي وضعته في قائمة المطلوبين، وصار مطلوباً من طرف رجال هواري بومدين، فاضطر للهروب والهجرة والاستقرار في المنفى خوفا من البطش. في حياة المنفى الأوروبي صار يوسف كاتبا كبيرا، وصارت له مؤلفات كثيرة، وانغمس في علاقات المجتمع الأوروبي حيث الحرية والخمر والصاحبات العشيقات. لكن هذه اللذة التي انغمس فيها انقلبت في النهاية إلى خطر، حيث جاءت مرحلة الهلع الأوروبي من المسلمين بعد تفجيرات نيويورك وتنفيذ مجموعات دينية أخرى لعمليات مختلفة في أماكن من أوروبا خصوصا فرنسا.. ظهر التشدد الديني ورموزه في أوروبا وصار موضوع العنف الديني مطروحا ووضع يوسف في قوائم المهددين بالاغتيال والمكفرين من طرف هذه الجماعات انطلاقا من دردشة بينه وبين أحد المتدينين حول إحدى كتبه على هامش معرض في فرنكفورت. وقد أعلمته الشرطة أنه مهدد وبدأت تراقبه وتحميه وقد تبين أن إحدى خليلاته وهي من أصول جزائرية، وقد هربت إلى أوروبا بعد اغتصابها من طرف والدها التاجرالكبير وصاحب العلاقات الكبيرة مع الملتحين وعدد من زعاماتهم على صلة بإحدى المجموعات تستعد لاغتياله بالتآمر مع إحدى المجموعات. هذا مختصر الحكاية الطويلة أو الرواية الضخمة التي نشرت في طبعات مختلفة منها طبعة مجلة دبي الثقافية التي أعتمدها في هذه القراءة. يبدو أن الرواية على صلة كبيرة بالسيرة الذاتية لمؤلفها لتوفر جملة من عناصر السيرة الذاتية، ومهما يكن من أمر فهي تطرح أسئلة كثيرة، وتوحي بدلالات مختلفة لعل أهمها حالة الاغتراب التي طرأت على الإنسان العربي في مجالات عديدة، وهي تتجسد في شخصية يوسف مارينا في بعدين على الأقل أولهما تاريخي وسياسي، فيوسف هو رمز التاريخ التحريري والنضال الوطني بصفته ابن شهيد معروف، وثانيهما ثقافي فهو أيضا كاتب كبير ويرمز إلى حال نصيب هائل من المثقفين والمبدعين العرب.

اغتراب المناضل:

تتكون شخصية مارينا السياسية من معطيين؛ أولهما كونه ينتسب إلى صلب شهيد من شهداء الجزائر وهذه النسبة تحمل رمزية خاصة في مجتمع يكرم الشهداء، ويدللهم حتى تمتعهم أحيانا بامتيازات وربما نفوذ خاص يستمد من احترام ذلك الاستشهاد، وهذا التبجيل يتجسد مرارا وأهمها زيارة الزعيم بن بلة لمدينته ومقابلته له ووالدته "عندما زار الرئيس بابانا مدينة مارينا بعد الاستقلال طلب أن يرى ماما جوهرة أرملة آخر شهيد دفنه بيديه الذي سقط يوما واحدا قبل الإعلان عن وقف إطلاق النار.. يتذكر شيئا خاصا ظل عالقا بذهنه الرايس بابانا وهو يسحبه بهدوء ويضعه في حجره ويضمه إلى صدره لدرجة انه أحس بدمعه الساخن على خده وهو يتمتم -أبوك كان رجل ونصف شعر بنعومة أصابعه مرتين عندما حياه والثانية عندما ضمه إليه ومسح على وجهه برؤوس أصابعه...."198

ولكن ابن الشهيد المبجل من طرف الزعيم بن بلة والذي ساهم في تحرير الوطن يطارد بعيد الاستقلال، ويضطر لترك الوطن ثم يلاحقه الوطن في العقود الأخيرة بالتكفيريين ويصبح مهددا بالقتل والغدر. وهو ما نتجت عنه حالة اغتراب ويأس من الواقع عبر منها مراراً وهذا ما يفسر تمسكه بالغربة والمنفى عندما عرض عليه موسى لحمر حينما زاره العودة إلى مدينته حيث يقول:"بلادي؟ قصدك بلادهم؟ لا أرض لي يا عزيزي إلا لغتي بلادي دفنتها في قبر أمي" ص126. ألا يحيل هذا على ظاهرة التنكر للشهداء وللوطن وللقيم الوطنية بتعلات مختلفة في البلدان العربية؟ وألا يذكر هذا الأمر بتلك الأحاسيس العميقة بان أولئك الذين حرروا هذه البلدان لم ينالوا حظهم وسرعان ما تم الانقضاض عليهم وإبعادهم؟ وقد نذهب أبعد في هذه التخمينات حينما نأخذ صفة ابن الشهيد ونطلقها على جيل كامل هو جيل الثورة والتحرير، وهو الجيل الذي يرفض الإطاحة بالرموز، ثم وجد نفسه لاحقا في حالة اغتراب وضياع وتهديد وإهمال، وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله: "بعد أكثر من خمس عشر سنة من استقلال البلاد لم يرتح شهداؤنا الذين يطرزون الشوارع والمدارس والمواقع الحكومية والاحتفالات الدينية والوطنية .الشهيدان عميروش والسي الحواس تصور بقيت رفاتهما في ثكنة علي خوجة في مرتفعات العاصمة خمس عشرة سنة قبل أن يجدوا لهما الطريق إلى مقبرة الشهداء لماذا حتى قائد الدرك الوطني عندما سئل لم يقل لماذا أبقاهما في الثكنة تحت إمرة قيادة الدرك كل هذا الوقت...". ص125 وبالتالي تصبح محنة يوسف محنة جيل كامل امن بالوطن ووجد نفسه أمام واقع جديد تغيرت فيه مفاهيم الوطنية ورؤى الدولة بل قد تخيل هذه المحنة على واقع عربي كامل ذهبت فيه تضحيات الكثير من الشهداء سدى.. ولعل الأمر إشارة إلى حصار الجيل الوطني في هذا الزمن حيث فقد هذا الجيل مواقعه في أماكن كثيرة.

اغتراب المثقف:

أما الجانب الثاني من شخصية مارينا فهو صفته كمثقف وككاتب عربي كبير خير المنفى ليستمر في حياته...

*اغتراب الخطاب: لعل أهم ما يشغل الكاتب العربي هو ضياع خطابه وعدم وصوله بالطريقة الصحيحة، فهذا الخطاب صار عرضة للشك والثلب والتخوين والتكفير، وهو ما جعل الكثير من الكتاب في عداء مع مجموعات متدينة، فذلك التأويل الذي يراه البعض يجعل الخطاب غريبا ومنبوذا، ويعرض صاحبه إلى الملاحقة ولعلنا نعثر على بداية لهذه الصورة في بداية الرواية حيث يحدث أن يفاجأ الراوي وهو في حفل توقيع لرواية جديدة في فرانكفورت أن يخرج له شاب ويتهمه بالكتابة ضد الإسلام، وهو ما نفاه الراوي واستغربه: "عندما انتهى توقيع النسختين للشاب وصديقه تقدم الشاب الثالث بخطى وئيدة وثابتة نحوه تقدم وفي أذنيه السماعتين ودون مقدمات سأله باستغراب: -السيد مارينا لماذا تكتب ضد الإسلام؟ماذا ستربح عندما تخسر ربك؟ ثم نزع السماعة اليمنى وبقي محتفظا بالثانية فقط -لن أربح أي شيء من وراء شتم أي دين كان وليس الإسلام وحده. كانت ايفا قد قامت من غفوتها وبدأت كعادتها تترجم من الألمانية إلى الفرنسية سأله وكأنه قرأ الشيء المبهم الذي ارتسم في عمق عينيه: -أنت قارئ وأنا غير منزعج من رأيك لكن هل قرأت عرش الشيطان أو أي عمل آخر لي -ذئاب العقيد أعجبتني الرواية كثيرا على الرغم من إني لم أحب الصورة التي رسمتها للإمام المخبر -في رأيك كل الأئمة كانوا ضد الانقلاب؟هناك عملاء للنظام من كل الفئات -على كل ليس هذا غرضي أتحدث عن عرش الشيطان الاهتمام الألماني بها غير طبيعي -طيب ما الذي يزعجك في ذلك؟ -تريد الصراحة النية المبيتة ضد الإسلام.لم اقرأ عرش الشيطان ولكني سمعت عنها الكثير...................ص27-28

فالكاتب العربي من خلال هذا المقطع يعيش حالة نبذ واتهام مختلف دون دليل واضح، إذ الأمر يتحول من مجرد إحساس أو تحريض أو تخمينات إلى تهمة تلاحق الكاتب، ثم قد تكون سببا في نهايته.. فهي غربة الأفكار تنزل في مجتمعات لا تقبلها وتجد الترحاب في الغرب على نحو ما نجد عند يوسف مارينا الذي يستقبل في فرانكفورت ويحتفى بإصداراته بشكل مهم . ومن الطبيعي أن يتحول اغتراب الأفكار إلى اغتراب حياة وأن تؤثر هذه المواقف وردود الفعل في حياته، فالراوي يضطر من البداية إلى التخفي خوفا من عقاب انتقامي لا لجرم ارتكبه وإنما بسبب الكتابة.. في المرحلة الأولى كان خائفا من رجال هواري بومدين بسبب مقالاته ومنشوراته التي لم ترحب بسلطتهم وواصلت تمجيد الزعيم أحمد بن بلة وفي المرحلة الثانية كان الخوف من المتشددين بسبب تكفيرهم له.. فهو بالتالي يعد نموذجا للمثقف العربي في مواجهة سلطتين مدعومتين بالقوة.. سلطة الحكومة وسلطة المتشددين. صورة أخرى قد نلمحها في هذه التجربة هي صورة كتاب المنفى وتلك الحياة البديلة التي يختارونها.. حياة المجون والنساء والخمر.. لكن هذه الحياة أيضا ليست آمنة فهي باب خطر.. فالخليلة كانت بصدد الإعداد لاغتياله.. ألا يبدو المثقف العربي في النهاية محاصراً من الجميع ويعيش بغرابة وسط تحالفات رهيبة بين أطراف متناقضة مثل تآمر الخليلة المومس مع منظمة دينية متشددة. إنّ شخصية يوسف مارينا في هذه الرواية لا تختلف عن شخصية لوليتا في نفس الرواية، وهي أيضا نتاج لجملة من التقاطعات والمسارات التي تصنع منها كيانا يعيش حالة الاغتراب، ويتلقى طعنات الوطن والأهل. ومما لا يخفى أن اغتراب يوسف هو اغتراب جيل كامل من المناضلين والشهداء وذويهم ممن لم تحقق لهم دولة الاستقلال العربية ما يرجونه، وقد وصل بها الأمر للتمرد عنهم بعض الأحيان وعاداتهم لظروف صراعات حزبية وغيرها. كما يجسد مارينا حال المثقف العربي المحاصر والمقيد وقد صار في مواجهة الرأي الرافض والنار القاتلة. إنّ شخصية يوسف مارينا وجه من وجوه هذه الأجيال الهائمة في الأرض العربية تغمس حيرتها العميقة ببعض اللذة وتتخبط في الأوجاع والالام. ــــــــــــــــــــــــــ كاتب من تونس الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم