(لعنة ماركيز) هو عنوان رواية للعراقي (ضياء الجبيلي) سبقتها روايات (وجه فنسنت القبيح)، (تذكار الجنرال مود) و(بوغيز العجيب) ولحقتها رواية جديدة هي (أسد البصرة). أظن أن عنوان الرواية التي سأتحدث عنها لوحده رواية. لكن لأتحدث قبل هذا عن (ضياء الجبيلي) نفسه. شخصياً ومن خلال متابعتي له على الفيسبوك لا أرى هذا الروائي إلا شاعراً. أدين بالفضل له ولعدد قليل من الشعراء أنهم أعادوا لي ثقتي بالشعر، وأنا أستعيد تلك اللذة النادرة التي أحسها بقراءة الشعر.. اللذة التي حرمني منها جيش جرار من حاملي صفة (شاعر) حتى جعلوني أهرب من الشعر إلى حد أن الصفحة الوحيدة التي لا أمر عليها في أي جريدة هي الصفحة التي تتوفر على قصائد أو هكذا يسمونها.. نوع من مزيج كلمات لا تنفع ولا تضر تخرج بأنساق غرائبية يراد لها الغموض هدفاً وحيداً.. بينما الغموض في الأدب لا يكون إلا تعبيراً عن التعقيد الكامن أصلاً في كل شيء وليس تركيب مصنوع سلفاً.. أقول هذا بحق ضياء ولا أنفي عنه أنه كاتب رواية كذلك له طريقته المتفردة في قول ما يريد قوله.. الرواية مهداة إلى صديقه الفقيد (محمد الحمراني) الذي للأسف توفي بعمر مبكر جداً قائلا له: "صديقي.. ما زال حلمك يطلق الفراشات". وفي هذا محاكاة لمقولة للفقيد (أنفي يطلق الفراشات) المقولة التي تحورت وصارت عنوان لصفحة فيسبوكية ناجحة خاصة بالرواية (أنفي يطلق الروايات) أطلقها في البدء صديقان للحمراني هما مرتضى كزار وأحمد السعداوي. يعثر الكاتب صاحب (لعنة ماركيز) وهو هنا (الراوي) بعد 2003 على مغلف بريدي مهمل في دائرة البريد يعود لفترة ما قبل الحرب كان غير مستوفٍ حق الطوابع لذا أهمل. يكتشف أنه مخطوطة رواية احتال كاتبها على كتابتها بلغة غريبة لا تنتمي حروفها لأية لغة معروفة.. وكانت هذه حيلة اجترحها الكاتب لتمرير مخطوطته عبر البريد لتصل إلى صديق أو صديقة خارج البلد.. يظل كاتب المخطوطة مجهولاً والمرسل إليه كذلك مجهولاً. يعكف الراوي هنا على العمل لفك شفرات تلك اللغة التي يدعوها بـ(اللغة العكسية) ويكتشف لاحقاً ما هي إلا لغة كيبورد الحاسبة حين يخطئ الكاتب بتعديل إعدادات اللغة قبل الكتابة.. تخرج له حروف لا شكل معروف له هي أقرب إلى الكودات منها إلى الحروف. الرواية مكتوبة من قبل خمسة أصدقاء وسادسهم الكاتب (الراوي) لكل واحد من الخمسة فصلاً كتبه دون معرفته بما كتبه الآخرون.. لتأتي مهمة السادس (الكاتب) لتجميع المفكك.. في النهاية تبدو الرواية للقارئ مفككة لا رابط يربط أجزائها.. لكنها من زاوية أخرى ألا تشبه حياة العراقيين قبل وبعد الإحتلال..؟ أما العنوان (لعنة ماركيز) فهو الذي أثارني منذ البداية.. يا ترى ما علاقة ماركيز بالرواية وشخوصها وكل ما يجري.. وما الذي جعله ركناً أساسياً في بناء هيكلها..؟ هنا أدين لـ(ضياء) أنه كتب ما كان ينغل في صدري طيلة سنين طويلة أقرأ وأسمع عن هوس مرضي تمكن من عدد غير قليل من كتاب الرواية العراقية المبتدئين المأخوذين بالإعجاب الشديد والدهشة من روايات ماركيز الساحرة إلى حد محاولتهم تكراره عراقياً.. لكنهم فشلوا جميعاً وخرجوا بروايات كسيحة مصابة بداء الاغتراب المزدوج عن ذواتهم وعن قارئهم.. شخصياتهم تشبه الكاريكاتير وأحداثهم مفبركة.. في وقت أن كل الغرائب والعجائب والأساطير المعتقة هي تحت أنوفهم موجودة في البيئة العراقية من أهوارها إلى جبالها إلى صحاريها فقط هم لا يرونها بعيونهم بل بعيون ذلك الساحر الفذ (ماركيز).. من هنا تبدأ محنة شخوص (ضياء الجبيلي) الخمسة الذين يريدون كتابة رواية جماعية وهم يتحاورون ويتصارعون ويهمسون لبعضهم مأخوذين بالخوف من أن يلاحقهم (ماركيز) ويكتب عن أوحالهم، عالمهم، أساطيرهم، موتهم "أنا هنا لأموت: خنقاً، حرقاً، شنقاٌ، في الجبهة، المهم أن هناك موتاً يتربص بي..." ينتابهم الخوف من ماركيز من أن يسطو على إرثهم المعتق بالغرابة والأسطرة والسحر وهو القادر: - سيبدأ.. حتماً سيبدأ ! - والمطلوب؟ - أن نسبقه طبعاً ! قبل أن يسرق معاناتنا التي نحن أبناءها أحق منه بتسطيرها..؟ وحين يتجادلون حول العنوان وهم لم يكتبوا الرواية بعد.. يخرج أحدهم بعنوان (مائة عام من الفوضى)..!! هم يتجادلون وماركيز (حسب قول الراوي) ينام على فراشه الوثير ويضع رأسه على وسادة ناعمة من ريش النعام، وفي الصباح الباكر يفيق من نومه الهانئ والعميق، يحصي أحلامه السعيدة، يقضم البسكويت فيصطبغ شاربه الكث بالحليب المخلوطؤ بالكاكاو. قبل أن يجلس خلف مائدة الكابة ليسرد للعالم المتحضر روايته الجديدة عن عاهراته الكثيرات، أو ربما يشرع بكتابة رواية عن الشرق الأوسط، وتحديداً عن مقابرنا الجماعية...!!! يحدث هذا بينما بلدهم المهروس بمعاصر الاستبداد والداخل في عالم الأساطير من أوسخ أبوابه، هو أرض خصبة لأغرب وأرقى أشكال الأبداع.. لكن كيف يرون كل هذا الإرث الجاثم تحت أنوفهم وهم منشغلون ما زالوا بأحاجي البنيوية والسريالية والحداثة وما بعد الحداثة، وهل فلان دخل الحداثة أم وصل الماوراء الحداثوي.. وما هو وأين يقع هذا الماوراء..!؟ هذر بمفاهيم وأطر لم يعد لها سوق في منشئها الأصلي (الأوربي).. لقد كنستها الثورة الجارفة.. الثورة التي اختزلت العالم وهي تريد اختزال الكون إلى شاشة بحجم الإصبع. إذن، ثيمة الرواية عبارة عن حوارات ذكية لماحة لواقع حال الكتابة في العراق.. وواقع حال الكتاب المبتلين بالاندهاش والتقليد لكل ما يصل من الخارج مترجماً.. دون أن يمعنوا النظر إلى ما تحت أقدامهم وفي بيئتهم القادرة على توليد ما يدهش ويصدم ويخلخل موازين العالم.. نزار: إن الذي نحن فيه مسألة عالمية، كونية.. ولا بد لنا كفنانين أن نؤرخ هذه القضية.. صحيح أننا ننظر إلى ماركيز كقائل للحقيقة، والدليل أنه جمع الدكتاتوريين في دكتاتور واحد، والعالم الثالث في بلدة وهمية هي (ماكوندو). يوتوبيا لا وجود لها.. وها هو يكتب الآن عن عالمك المغلق لكن ليس بعيون محلية.. قضية يا أخي.. قضية.. ((الإصغاء: هذه الكلمة، تبدو أكثر أهمية من أن تصدّق شيئاً يبدو لك كخرافة أو أسطورة. وقد أصغى الناس إلى كافكا وماركيز وساماراغو وخوان رولفو وغيرهم ممن تعاملوا مع المسوخ والكوابيس والخرافات والأشباح والأموات. فما بال هذا العالم لا يصغي إلينا ونحن نروي قصتنا الحقيقية لماذا ندع ماركيز يرسمنا بكلماته، ويجني على حساب مقابرنا ملايين الدولارات، وشهرة تُضاف إلى شهرته الفاحشة..؟)) في النهاية لعلني لم أقل لكم أن هذه الطريقة في الكتابة ما هي إلا حرشة عراقية عذبة نابعة من أعماق المعاناة المبتلى بها العراقي من المهد إلى اللحد.. هي تشبه محنة النفط ينام الجنوبيون على أغنى بقاع الأرض وهم فقراء.. كذلك موضوع الأدب أو الإبداع بشكل عام مادته تدثرنا نتنفسها لكن أدباءنا لا يرونها.. وإن رأوها وأرادوا الكتابة عنها سيكتبون بخيال مسوخ مستوردة من الخارج يحاولون محاكاة كافكا وماركيز وميلان كونديرا والعم همنغواي الذي كان يتجشم عناء رحلات مهلكة ومكلفة إلى غابات أفريقيا فقط ليشحذ مخيلته للكتابة.. بينما أساطيرنا وخرافاتنا والسحر بكل أشكاله كلها تتمشى في شوارعنا مسلحة بالخناجر والسيوف والبنادق وتقود السيارات الحديثة لتفجرها في أجسادنا.. إنها محنة أخرى. ـــــــــــــــــــــــ ملاحظة من الكاتب: قراءتي هذه قديمة لا أدري ما السبب الذي منعني من نشرها بعد قراءتي للرواية مباشرة قبل سنوات.. لعله انشغالي بعملي أو لأقل هو حذري من التحرش بإنجاز غيري. لكن صدور رواينه الجديدة (أسد البصرة) هو من حفزني لاستعادة القراءة من الأرشيف وتقديمها تحية لهذا المبدع الذي أكن له كل الإعجاب.

الرواية نت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم