باتت الرواية في عصرنا الحالي أهم جنس أدبي على الاطلاق، لذا نرى كُتاباً كثيرين يهرعون صوب كتابة الرواية وإن لم يكتبوا روايات فيما سبق خلال مسيرتهم الإبداعية. في الجانب الاخر تنال الرواية من قِبل القُراء اهتمامات غير مسبوقة، وكأنهم يجدون في الرواية ما لا يجدونه في الشعر والمقالة والقصص القصيرة وغيرهم من الأجناس الأدبية الاخرى. في الحيز نفسه تنال الروايات الجيدة جوائز مادية ومعنوية تجعل من الروائيين أن يعتزلوا جانباً كي يستطيعوا الكتابة كيفما يودوا إلى أن تكون نتائجهم الروائي غزيراً في الكم و قويماً في النوعية. خير مثال على ذلك جائزة "البوكر العربية"؛ "الجائزة العالمية للرواية العربية" التي أطلقت في أبوظبي عام 2007، ومن ثم جائزة كتارا للرواية العربية في بداية عام 2014. موازياً لأهمية الرواية ومدى الاستقبال الشعبي والرسمي لها، يبدو أن أهمية كتابة الرواية أجل وأهم، باعتبار أنّ الكثير من الروائيين يستطيعون أن يكتبوا روايات ما بشكل من الأشكال، لكن الذين يكتبون الروايات العظيمة قليلون جداً. هذه الرواية التي نتناولها بالنقد، للكاتبة الكوردية (مهاباد قره داغى)، مجرد اسم الرواية (فاتيلا) هو تركيب من تداخل اسم كل من الشخصيتين الرئيسيتين (البطلة فاتم) و(البطل ئاتيلا) هو شيء جديد على الأقل بالنسبة للروايات الكوردية وتسمياتها. تبدأ الرواية بجملة رشيقة تجذب القارئ من أول وهلة إذ تقول: (كي ينسى حمله الثقيل وهمه الجامح، كان قد إلتجأ مرة أخرى للشرب...) ص5.. ثم رويداً رويداً تأخذنا الكاتبة بسردية سلسة نحو عالم الشخصية الاولى، الذي هو نفسه السارد والراوي (دكتور ئاتيلا)، حقيقة وأنت تقرأ الرواية تشعر كقارئ بأن فيها ما يجذبك، وأظن أن السبب الوحيد لذلك الشعور هو لغة الرواية التي تعتبر بحق لغة سلسة. رواية فاتيلا تسرد حكاية عاشقين من منطقة طرميان تحديداً قرية (بنةكة) الواقعة في جنوب كوردستان إقليم كوردستان العراق، جامعة بين قصة الأنفال والهجمات الكيمائية على مدينة حلبجة، ثم الانتفاضة الكوردية في عام 1991 التي أنهت الحكم البعثي في الإقليم وأسست لسلطة كوردية فيما بعد. حسب تصوري تكمن أهمية الرواية في العديد من الدوائر الإبداعية والمعرفية، لكن دون أن ننسى أن الرواية الحديثة جعلت من السرد روح الرواية، السرد الذي يطرح أسئلة نادرة وكامنة في نفوس البشر حسب مشاربهم ومستويات تفكيرهم، والسرد المقصود هنا بمعناه الواسع والمتشعب في حيثيات الرواية و ليس مجرد السرد لذاته. استطاعت الكاتبة ولو بشكلِ يسير، لكن جذاب، أن تَجمع بين الجوانب السياسية والاجتماعية والنفسية أحياناً، لكن كان من الممكن أن يكون سردها في حيزٍ أفضل لو رفدتنا بعضاً من تلك المعلومات المخزونة والأليمة التي لم تُستعمل إلى الآن في روايات كوردية باستحقاق. عندما تكون للقصة المروية أجنحة واقعية كما في هذه الرواية، يكون للوصف أثر بالغ في الإقناع وفي التصوير الحي للأماكن والأزمنة، لكن هنا لم تبلغ الكاتبة المستوى الذي يجعلها أن تصور الحياة المشؤومة في ثمانينيات القرن العشرين تصويراً بارزاً، لكن في المقابل استطاعت أن تنقل لنا مكنونات نفسية مضطربة لكل من العاشقين (كنتُ أتنفس الحسرات ودموعي تنهمر، مشاعري كأنها تود أن تكون شعراً مقدساً و ناصعاً، أنصع من ثلوج جبالنا وأشهى من أحاسيس ئاتيلا). ص18. تكمن مضمون الرواية ككل في أن المجتمع الكوردي مقيد بقيدين واضحين، الأول قيد ديني/ اجتماعي وهذا مرده الانصياع للتقاليد الاجتماعية القديمة التي منعت أهل (فاتم) أن يرضوا بتزويجها من (ئاتيلا)، كونها ذات حسب ومن نسل السادة لكنه في المقابل من عامة الناس، فكيف يقترن شخص من عامة الناس بفتاة ذات حسب ونسب! القيد الثاني قديم جديد ويكمن في المشكلة الأزلية التي يعاني منها الكُرد في كل كوردستان، ألا وهو احتلال أراضيهم ومنعهم بشتى الطرق من تقرير مصيرهم، وما ان يحاولوا إطلاق حريتهم حتى يكونوا في مواجهة غطرسة الدول لتي تقطع أوصالهم فتفتك بهم وتضيق عليهم السبل ما أستطاعت، وكأنها تود القول إن كلاً من الظلم السياسي والاجتماعي وجهان لعملة واحدة و هي الخراب. الشخصيات الثانوية الأخرى مثل (أشقاء فاتم وأمها و أبيها وأم ئاتيلا) كان من الممكن أن يأخذوا مساحات أوسع و أرحب في هندسة الرواية، لا أن يمروا مرور الكرام. خطأ آخر وقعت فيه الكاتبة حينما صورت لنا قصة العاشقين بصور ملائكية لا تعرف الرغبة طرقاً لمشاعرهم وأحاسيسهم، فرغم تلاقيهما العديدة وكأنهما ليسا من جنس البشر ولا يملكان الرغبة التي تنقلب عادة إلى ملامسة أو أحياناً قليلة إلى ممارسة. هناك مقاطع في الرواية (ص 18 و ص86 من الرواية) وجودها أو عدمها لم تكن لتؤثر في مسار السرد، بل و كأن تلك المقاطع كُتبت في زمن آخر وألصقت بالرواية، لذا ما يكون زائداً فكأنه نقص والعكس صحيح أيضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رواية فاتيلا صادرة عن دار (خاني) دهوك-كوردستان العراق سنة 2016.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم