في روايته "قصة موت معلن" يبهرنا الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) بشكل خاص وأدب أمريكا اللاتينية بشكل عام باقترابه من همومنا كعرب، ربما السبب يعود إلى تشابه ظروف الشعبين من فقر واضطهاد رغم الثروات الطبيعية الوافرة، فلا عجب أن نرى الإحساس العالي بالمعاناة ورفض الظلم والشعور العالي بالقهر لدى الاثنين. للوهلة الأولى تبدو قصة موت معلن كقضية شرف عادية إذ يجد بيادو سان رومان الغني سليل الأمجاد أن عروسه أنخيلا فيكاريو غير عذراء.. فيعيدها إلى بيت أهلها بعد ساعات من انقضاء العرس الذي أصبح حديث البلدة وعندما تستنطقها أمها بعد ضربها عن اسم الفاعل تبحث بذاكرتها فلا تجد غير اسم العربي سنتياغو نصار وعندها يصمم أخواها التوأم بيدرو وبابلواللذان يعملان جزارين على قتله بالسكاكين التي يذبحون بها الخنازير. سنتياغو نصار ابن ابراهيم نصار من الجيل الثاني من المهاجرين العرب ابن الإحدى وعشرين عاماً، الثمرة الوحيدة لزواج تعايش لم يعرف لحظة سعادة واحدة، أما هو فكان يبدو سعيداً مع أبيه إلى أن توفي هذا الأخير فجأة قبل ثلاث سنوات وبقي يشبهه وتعلم منه الشجاعة والفطنة وكان سنتياغو مرحاً مسالماً وذا قلب بسيط نشيط غني لكنه بقي غريب الأب برغم كون والدته من نفس القرية، ولهذا اختارته العروس أنخيلا ليكون الضحية، ولم يحذره أحد من أصدقائه وجيرانه بأن الموت يتربص به، وحده جميل سايم صديق والده صرخ به بأن يدخل دكانه، ومضى ليأتي ببندقية الصيد الخاصة به، لكنه لم يتذكر أين خبأ الخرطوش. والمدهش أكثر أن القاتلين أخبروا الجميع ما ينويان فعله.. لكن غالبية الذين كان بإمكانهم عمل شيء لمنع الجريمة لم يفعلوا، حتى والد خطيبته فلورا ناهير ميغيل لم يخبئه بمنزله، بل اكتفى بإخباره بما ينتظره، وعندها ولشدة ارتباك سانتياغولم يجد طريق بيته.. وكما ورد في التحقيق فأن جميع تصرفاته قبل قتله كانت تدل على براءته. وفي صورة رمزية شديدة التركيز عندما وقفت أمه بلاثيدا لينيرو لمحت القاتلين يتقدمان عدواً باتجاه بيتها وهما يحملان السكاكين، لكنها لم تلمح ابنها الذي كان يركض من الزاوية الأخرى، عندئذ ركضت باتجاه البوابة وأغلقتها بالمزلاج، عندما سمعت صراخ ابنها الذي كان بحاجة لثوان ليدخل وينجو من الموت حين أغلقت أمه البوابة، فاستدار ليواجه الموت بيديه العزلاوين، وسمع الجميع صرخته المتألمة عند أول طعنة ومات دون أن يفهم موته. وأكثر ما يثير الدهشة حالة التشتت والعجز التي تعاني منها الجاليات العربية، فعندما ذهب إليهم العمدة بونتي وجدهم حائرين حزينين دون أي تفكير بالانتقام، ومجموع المصادفات التي اجتمعت لتشكل دوامة من الغرابة المؤلمة التي تصل بالقارئ إلى حالة من الغضب العارم. تبرز هذه الرواية جدلية العربي في مجتمعات غريبة، اختارها أو اختارته لا فرق، حيث أصبحت هذه القضية معاصرة بالظروف الحالية، فالمهاجر حتى ولو حاول الانخراط بمجتمعه الجديد سيبقى كالشجرة التي اقتلعت من جذورها، فمن المستحيل أن تمد جذور جديدة في أية تربة، وحتى ذاك المجتمع سيقابل المهاجر بالرفض المبطن، ويظهر ذلك بمؤامرة الصمت التي حيكت ضد المسكين سنتياغو، حيث كتب بالتحقيق: "لم يحدث قط موت معلن بهذا الشكل لكن لمَ لم يحذره أحد والجميع متأكد أنه ليس الفاعل؟". ويبقى السؤال معلقاً لتبرز أكثر حالة الظلم الذي يرزح تحتها من هو بلا وطن في أي زمان ومكان.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم