ألماس ونساء - لينا حسن
إذا كانت الريادة في سرد الحوادث الناجمة من الحروب حتى الآن قد دانت الخطاب الفحولي، فإنّ الروائية السورية لينا هويان الحسن تُريد إنتزاع مكان لصوت الأُنثى في سيولة السرديات التي قدّمت عن الحرب. كأنّ لسان حالها يقول السرد الذي لا يُؤنّث لا يُعوّل عليه. لذلك تجدُ بأنّ شخصيات روايتها «ألماس ونساء» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر، جُلّها من النساء لا يَتَروّضْنَ تحت مظلة التقاليد التي أرسى مداميكها مَن أراد تغييب هويّة المرأة.
تكمن أهمية هذه الشخصيات في قدرتهن على تحويل الهامش إلى المركز، كما يمنحنَ سِحرهنَ للأمكنة، إذ تغدو المُدنُ مُحمّلةً بقصص (رومية خانم، ألماظ، بابور، نادجا، وبرلنتي). هَويات مُلْتبسة يمكن توصيف هذا العمل الروائي بأنه رواية المدن والنساء بامتياز، لأنَّ الإهتمام بالتصميم العُمراني والتحوّلات التي تشهدها ملامح مدينة دمشق، يأتي موازياً مع التركيز على مصائر الشخصيات المتناثرة بين قارات مختلفة. وهذا ما يتبيّن بمجرد مقاربتك لعتبات الرواية، حيثُ تستشهدُ الكاتبة بمقتطف من كلام مارك توين عن مدينة دمشق. كما أنَّ عنوان العمل بوصفه مفتاحاً تأويلياً يُحدّدُ لك التركيبة الداخلية للنص. تتميّز شخصياتُ رواية «ألماس ونساء» بعدم إمتلاكها لهوية مُحدّدة، وربما قصدت صاحبة رواية «سلطانات الرمل» تبنّي هذا الأسلوب لبناء شخصياتها، لتكشفَ بأنّ في زمن الحرب تتلاشى الهويات، ويختفي ما يُكِسب الإنسان خصوصياته، كما أنّ نسبة كبيرة من مآسي الحرب تقعُ على النساء. ربما هنا صورة نادجا وهي إحدى الشخصيات النسائية تُلخصُ كلّ معاناة الجيل الذي يُقَدَرُ له أن يُعاصر زمن الحرب، كذلك الأَمرُ بالنسبة لأمها التي تجرّعت مرارة الخسارة والتجاهل في حانات باريس، وهي راهنت على رقم ثلاثة عشر (تريس) لكنّ هذا الرقم أوصلها إلى نهاية بائسة. ومن ثُمَّ يظهر وجه آخر، دونيا لوليا التي إضطر عَمُها لبيعها في المجاعة وهي واقعة تحت رحمة الضُباط الفرنسيين فى جزيرة أرواد. لا تكون الآلام محصورة بمنطقة معيّنة بل تمتدّ إلى القارة الأفريقية إذ لور وكارو فتاتان أفريقيتان، تُهان مشاعر الأولى في حفلة إستهتارية لعرض أجساد النساء وذلك يترك جُرحاً غائراً في أعماقها، كما أنّ الاثنتين تتمثل مهمتهما في بيت كونت كرم في توفير الخدمات الليلية للأخير. ولاتنفردُ النساء بالحضور فحسب، بل يتواجد الرجال في هذا العمل، غير أنَّ الوظائف التي تقوم عليها بنية الأحداث ترتبط بالمرأة. كما أنّ شخصية الرجل تبدو نمطية إلى حدٍّ كبير بإستثناء محمود بكباشي وخولين كراسوف، الأولُ على رغم عدم تخصيص فصل بإسمه لكن بإنتقالاته يتحوّل إلى شخصية غامضة الملامح، والثاني يفرضُ نفسه برصانة أفكاره وهو الوحيد الذي شعرت ألماظ معه بالأمان. بخلاف ذلك تكون الشخصيات النسائية مدوّرةً لا تستقرّ في إطار واحد ولا تحمل إسماً واحداً بل الأسماء تتغيّر مع تغيّر الجغرافيا، كما أنّ الديانة لا تكون عنصراً ثابتاً لدى بعضهنَّ، وذلك ليسَ إنحيازاً من الكاتبة للمرأة بقدر ما هو تعبير عن توق النساء لصناعة مصائرهنَ. إلى جانب ذلك يتخذ جسدُ النساء وظيفةً إشهارية ضدّ النظرة الذكورية التي تَمحق الجانب الأُنثوي في الأُنثى، كما أنَّ الجسد يكتنز بدلالات الرغبة للتحرر وممارسة السلطة، وذلك ما يتجسّدُ في شخصية (برلنتي)، وشخصية لوليا دونيا. أمكنة متداخلة قد لا يختلف تناولُ الروايات الحديثة لعنصر المكان عن آلية التعامل مع مكوّن الشخصية، إذ صارت الأمكنة مُشخصنة بحيثُ تحمِل ملامح الشخصيات التي تتوارد داخل المساحات المكانية. هنا في رواية «ألماس ونساء» تتعدّد البنية المكانية كما يتشابكُ المكانُ مع الزمن والحدث والشخصية إلى أن تتكوّن هذه العناصر بأسرها فضاءً يشمل كلّ الأمكنة المتفاوتة. إذ تجدُ الشخصيات في حالة زئبقية ولا تَسكنُ في حيّز واحد بل تمتدّ مدارات حركتها من دمشق إلى ساو بالو وبوينس أريس مروراً ببيروت والقاهرة وأثينا ومرسليا وباريس. ولا تأتي هذه الوحدات المكانية لملء الفراغ أو إضفاء الزخرفية لبنية الرواية، بل يكون الهدف من ذلك هو إيجاد التعارض بين المدن وأطوار الشخصيات في تلك البيئات المُختلفة. وذلك الأمر يتجلّى عبر أدوار النساء في مدن الشرق مع حالة تثوير الطاقات النسوية في المهجر، إذ تندمج الشخصيات في ساوبالو في حركة السوق والنشاطات الثقافية، وتلمع أسماؤها في مجالات مختلفة بعكس ظروف المجتمعات الشرقية التي تقولب أبناءها لاسيما المرأة. الراوي المؤدلج ينفذ الراوي إلى بواطن شخصيات الرواية ويسبر دهاليز تخيّلاتها، ويتحكّم الراوي العليم بمسار الراوية من البداية إلى الصفحة الأخيرة، وأحياناً لا تنطلي شخصية الكاتبة المختفية وراء الراوي على المتلقي، بل ينتبه القارئ إلى وظيفة الراوي الأيدولوجية الحاملة لآراء المؤلفة، لاسيما عندما ينقلُ على لسان شخصية برلنت كلاماً عدائيا ضدّ اليسار. هنا نسمع صدى كلمات إحدى الشخصيات وثرثرة فوق النيل عندما تعبّر برلنت عن مقتها للثورة التي تنتهي بجني الرعاع لثمارها. ولا يتوقف هذا التماثل بين الكاتبة والشخصيات النسائية أو الراوي، بل تتلبّس أيضاً شخصية الرجل عندما يتحدث عن مكائد النساء وما تخبّئ وراء إبتسامتهنَ. بجوار الوظيفة الأيدولوجية يقوم الراوي بوظيفة إرشادية حيث يذكر التواريخ المعينة، خصوصاً ما يتعلق بمحطات مهمة في حركة الجمعيات المناهضة للعثمانيين، أو إفتتاح أول جامع في مدينة باريس. كما يتبع الراوي الأسلوب نفسه عندما يذكر سلالة شخصية بوتان الكردي. بجانب كلّ ذلك يضعك هذا العمل في صورتين مغايرتين لدمشق التي هي مدينة الأم: في الأولى هي مدينة كوزموبولتية قد تصادف فيها البشر من كلّ الأجناس، وفي الثانية صارت مدينة مزيجة من المخادعين وأصحاب السوابق وكتبة التقارير. يبدأ هذا العمل برحلة ألماظ خانم مع زوجها كونت كرم الذي يشغله مَن يحافظ على إسم عائلته إلى باريس وينتهي بمغادرة برلنت لدمشق مع كارلوس. وبين الحدثين تضجّ الرواية بوقائع وتطوّرات صنعتها شخصيات منسيّة عاشت في أجواء الحرب والتحوّلات التاريخية.
عن جريدة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم