الغواية - نائل عدوان

جاءت رواية “غواية لا تودّ الحديث عنها” للكاتب السوري نائل العدوان مقسمة إلى فصول متعددة وبأسماء مختلفة حسب الحدث الرئيس في كل فصل، فكانت روايتين في رواية واحدة، الأولى تتجسد في قصة شاب يهاجر من بلده لعدم اقتناعه بجدوى الحياة في وطنه، لكن الأقدار تصحبه إلى سجن لاقترافه خطأ ما في إحدى محطات القطار.

أما القصة الثانية فهي تحدث بشكل متلازم لجندي يعيش حياة مهمشة في القصر السلطاني حيث تكشف له الأحداث عن مؤامرة ضد الحاكم ويكون له نصيب من حياة النفي لتدخله غير المقصود بسير الأحداث، رغم التشابه السردي بين المسارين إلا أنّ القصتين تسيران في خطين منفصلين ودون أي روابط تذكر، لكن الحقيقة التي سيدركها القارئ أن الشخصيتين الرئيسيتين للعمل هما في الواقع لذات الشخص وهو الترابي حمادة الصفواني، فالعديد من الصفات التي لا يعلم بطل القصة كيف تحلى بها هي في الأصل للشخصية الأولى وهي تظهر بشكل غير موضح في معرض الأحداث، حمادة العتال على السفينة يكتشف بأنه كان بحارا، والترابي الحارس يكتشف أنه شاعر لا يشق له غبار.

عن هذا يقول ضيفنا “إن الصفات تتولد دون أي اكتساب أو تعلم كونها قد تخلّقت في وقت سابق وحياة أخرى لشخص آخر في مكان آخر، وكون الشخوص من زمانين مختلفين فإنهما لا يعرفان بعضهما وإنما هنالك إحساس وجودي غريب يتلبس إحدى الشخصيات بالشخصيات الأخرى الأقدم تاريخيا”.

المغامرة السردية

فكرة الرواية بالنسبة إلى نائل العدوان ليست مجرّد عمل كتابي أو روائي ينتهي بمجرد كتابته على الورق كحروف وجمل مصفوفة، إنما هي مساحة واسعة أتيحت له لطرح العديد من الأسئلة الوجودية والتي تكتنف ماهية حياة الإنسان وكنه أسرارها، كما أنها أحداث وقصص تؤدي بالمحصلة إلى نتيجة واحدة بأن الغموض الذي يلف الروح الإنسانية يمكن أن يكشف بالمنطق والتجربة.

عن تركه لمسافة بين شخوصه وبين ذاته الكاتبة بالرغم من بروز خطوط واضحة لعلاقة حميمة تارة وعدائية أحيانا أخرى بينه وبينهم، يقول العدوان “إنّ المسافة فرضت نفسها على العمل بحكم التقنية القريبة من تقنيات مسرح العرائس والدمى الذي يتحكم فيه المسرحي بالأبطال عن طريق الخيوط الخفية التي لا يراها المشاهد، فالبطل تحديدا معلق بخيوط تنتهي أطرافها بأصابع المؤلف، لذلك كان الحديث يدور بشكل صريح بين الكاتب وبين البطل بشكل يحمل من المخاطرة الشيء الكثير”.

 
الرواية مساحة لطرح الأسئلة الوجودية، كما أنها قصص تؤكد أن الغموض الذي يلف الروح الإنسانية يمكن أن يكشف بالمنطق

يرى ضيفنا ألّا أهمية لتركيب الشخصية وتفاصيلها للدلالة عليها، ولا أهمية أيضا لمنشئها أو لغتها أو لونها، من هنا، فإن الوفاق بين الهوية، الروح والجسد هو وفاق افتراضي بشكل صرف ولا يبرر التحيز للجسد، إنما ينبغي تغليب الأصل وهي الروح التي تتسامى لتتصور في وعاء وجسد جديد، وهو بطبيعة الحال -أي الجسد- غير مهم ومتعدد الأشكال، وبنفس الوتيرة بنى العدوان حالة عدم الرضا عند الشخصيات تجاه الجسد الذي يورثها الكره والسخط.

ضمن هذا القالب السردي الجديد الذي يظهر فيه الكاتب كموجّه صوتي لشخصيات العمل، نسأل ضيفنا عن خوفه من انفلات عقدة السرد ضمن هذا الشكل الجديد للعمل الأدبي، ليعترف بأن ذلك حدث في بداية العمل فقط خاصة مع اختلاق لعبة التفكيك التي بدأ بها منذ أول كلمة الرواية، ومع خلق الشخوص زادت المخاوف من ضياع الفكرة في زخم الأحداث الجديدة، فالتركيز جاء منصبا على بقاء الفكرة الأساسية حية خلال صفحات العمل مع المحافظة على ارتهان البطل لرغبة الراوي والتدخل والانسحاب وفقا للأحداث وربط الأفعال الصغيرة والمهملة بعضها ببعض للوصول إلى الحدث الأكبر فالأكبر إلى غاية تأزم الحدث وانتهاء القصة، بوجود قصتين في الرواية، هذه اللعبة التي كانت مخرجا للربط الذي خطط له الكاتب بعناية فائقة.

اعتمد العدوان في عمله الجديد على غياب الزمان والمكان، ورغم ذلك الغياب إلا أن الزمان سار على طبقتين بينما يمكن الاستدلال على المكان من خلال اللهجة المحكية للبعض من الشخصيات في العمل، عن ارتكازات الزمان والمكان نسبة للحكاية المتحركة التي قدّمها في الرواية يقول ضيفنا إنّ الزمان تمّ توظيفه كمحفز لفكرة العمل وامتداد طبيعي لوجود البطل الذي يورث صفاته وروحه لبطل آخر في مكان آخر، وهذا التوظيف جاء متزامنا مع تمازج الحقيقة مع الخيال الذي يعيشه البطل، فتهميش الزمن يسهل دمج الخيال بالحقيقة ويعطي الكاتب فضاء متسعا لزج المزيد من الأحداث والتفاصيل بشكل أفقي وعمودي.

 

الفانتازيا واقعا

الولوج في النفس البشرية من خلال أبطال نص “غواية لا تودّ الحديث عنها”، يحيلنا إلى سؤال العدوان عن مدى حضور ذاكرته الشخصية وذاكرات الآخرين المحيطة به من خلال حمادة العتّال أو الترابي حارس القلعة التاريخية، ليقول إن الهمّ الذي كشفه في شخصية حمادة أو الترابي هو همّ متكرر ليس لديه فقط ككاتب بل لكل مواطن عربي.

يبيّن ضيفنا أنّ الذاكرة الشخصية تلعب دورا كبيرا في اختيار شخصيات العمل، وربما هذا ما دفعه إلى اعتماد الحالة العدمية من خلال جهد تحطيمي واضح، هذا الانطباع يأتي بعد تجاوز العتبة المغايرة في النص، فهل هذا السعي التدميري الذي اتخذه الكاتب آلة سردية له تقاطعات من فهمه الشخصي للواقع الحالي العام، ليقول العدوان إنّ الكتابة في الفعل المضارع كانت من أصعب التقنيات التي واجهته في الرواية، فالأفعال مستمرة ولا تنتهي لتعرف نتيجتها بل إنها قد تأخذ الكاتب إلى أحداث غير مخطط لها، حتى البطل -الذي لا يملك خيارا لحياته- قد تذمر أكثر من مرة للتركيز على الفعل المضارع، وبناء على هذا جاءت الحالة التدميرية -بحسب وصف السؤال-، فالعدمية في الثبات الكلي دون القدرة على العودة إلى الماضي أو استشراف المستقبل أو تغيير الحال الآني.

اعتمد نائل العدوان في عمله على قصة فانتازيّة بالمطلق مع وضوح تقاطعها إلى حد بعيد مع ما يحدث في مدن الشرق اليوم، وهنا نسأل ضيفنا عن الحدث الحالي بوصفه نقطة انطلاق للتعامل مع الشخصيات في روايته، فيقول إن الكتابة بشكل عام هي فعل إبداعي يستطيع من خلالها الكاتب توظيف الأدوات المتاحة لديه ضمن إسقاطات متعددة على الواقع أو الخيال أو المزج بينهما. وهذا التوظيف في كتاباته لا يمكن أن يبتعد عن الواقع المرير الذي نشهده، وعن حالة التردي التي وصلنا إليها، وإن أي محاولة إبداعية لتجميل الصورة وتنميقها هو تزييف واهم، وفي ذات الوقت يرى العدوان أنّ الانسلاخ عن الحاضر في أي عمل روائي هو مجازفة لا يعوّل عليها، فالأصل عنده اليوم هو البيئة الخصبة بالأحداث التي نعيشها.

نائل العدوان قاصّ وروائي أردني، ولد في العاصمة عمان عام 1974، يحمل درجة الدكتوراه في اقتصاد الاتصالات من الجامعة الأردنية، صدرت له مجموعة قصصية بعنوان “المرفأ”، ورواية “مذكرات من تحت بيت الدرج”، ورواية “غواية لا تودّ الحديث عنها”، وله العديد من الأبحاث والدراسات الاقتصادية والأدبية المنشورة.

 

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم