Andrè Brink - الباب الأزرق

 

يطرح أندريا برينك في رواية «الباب الأزرق» الصادرة بترجمة أحمد الشافعي أخيراً عن مكتبة «كتب خان» في القاهرة، سؤالاً ملحاً لطالما شغل كثراً: ماذا لو؟

ماذا لو اكتشف المرء أن كل خيار اختاره كان ينطوي على احتمال آخر؟ ماذا لو رجعتُ إلى البيت يوماً فإذا بي أجد وراء الباب الذي أعرفه عالماً لا أعرفه؟ ماذا لو تحوّل أقرب الناس مني إلى غرباء؟ ماذا لو بدأ الغرباء يزعمون أنهم أصحاب بيتي، ويتخذون لأنفسهم أماكن في حياتي؟

هذه الرواية تمثل بحثاً جميلاً حساساً لما يكتنف العلاقات الإنسانية من حيرة وارتباك، وما يكمن مجهول وراء مفهوم الفرد عن الذات. أندريا برينك، الكاتب من جنوب أفريقيا ينحاز إلى الإنسان، لأسئلته الكبيرة، يبعثر مواطن قوته وضعفه، ويزيح عنها غبارها لتكون واضحة على طاولته، ويمنح له فرصة إعادة النظر في أهميتها وترتيب أولوياته، وهي فرصة ربما لا تتاح لكثر أو ربما تأتي بعد فوات الأوان، وبعد خسارات لا تعوض. إن الأحلام لا تأتينا جزافاً، فهي تعبر عن رغبات مكبوتة داخل لا وعينا، وبالتالي، فأحلامُنا فرصة جيدة «للتنفيس» عن تلك الصراعات والرغبات التي لا يكون بمقدورنا إظهارها للآخرين.

كما لا تأتي التحولات في شكل فجائي، فالسمات النفسية والشخصية تؤهلها، فنجد الكاتب يرسم بطله بما يبرر مأزق روايته، فهو يقول إن الآخرين «يرون» أن وظيفته ناجحةٌ وزواجه سعيدٌ، فيما هو «يتلهى بفكرة اعتزال التدريس ذات يوم والتفرغ للرسم»، لولا تقاليد عائلته التي ترى أن الرجل المتزوج عليه أن يجد وظيفة محترمة، فنجده يستأجر كوخاً للرسم «لمنحه إحساساً بالانفلات والخصوصية».

يبدو أن إلحاح «التمتع بالخصوصية» يمثل عقدة لدى بطلنا، تلك الخصوصية التي تجعله يصف اتهام زوجته له حينما تكتشف أمر كوخه بأنه يؤسس لعش حب وضيع: «فكأنما تعريتُ فجأة». ويضيف: «كان الأمر بالنسبة إلي يتعلق بانتهاك خصوصيتي، طوال حياتي وأنا أشعر بذلك الدافع الرهيب إلى أن يكون لي حيز يخصني أنا فقط، ولا يمكن أي شخص اختراقه أو غزوه». ثم تحدث المفارقة حينما يفتح «ديفيد» الباب الأزرق، إذا به يلج عالماً آخر، فيه زوجة شابة لها شعر طويل متماوج وعينان سوداوان، ترتدي «تي شيرت» بيضاء مع بنطلون جينز»، و «قدماها حافيتان»... «لا أستطيع أن أتحرك، أريد أن أقول شيئاً، ولكن صوتي يخذلني، كل ما أعرفه أنني لم أرها في حياتي من قبل»... «تنقضي في ما يبدو ساعة على أقل تقدير، وأجد نفسي قبالة فجوة في الظلام، بئر سلم في ما يبدو، لولا أنه لا أثر لسلالم، صاعدة أو هابطة». ثم ما يلبث أن يكتشف اختفاء الطابق الذي يسكن فيه.

وإمعاناً في تحميل الواقع بالعقد النفسية، يستخدم المؤلف في روايته الرقم 13 مرتين، وهو الرقم ذو الدلالة التشاؤمية والمثير للرعب، وفق عدد من الثقافات الشعبية، مرة باعتباره رقم الطابق الذي يسكنه مع زوجته ليديا، والمختفي في رحلة بحثه سواء في لوحة المصعد أو في طوابق البناية حينما يلجأ إلى صعود أدراجها، ثم الرقم 1313 وهو رقم البناية كلها، التي تختفي برمتها نهاية الرواية.

يمر البطل بحالة من النكران، «أنظرُ حولي على مهل، أشعر بأن حلقي مسدود، هناك غلطة كبيرة هنا، ربما هناك تفسير واضح لكل هذا اللغز ولكنه غائب عني». لكن، بعد حالة من الإنكار للواقع الجديد، وخيبة أولية لاستعادة حياته الأولى، يبدأ «ديفيد» في فحص الواقع المفروض عليه، ورويداً رويداً تبدو فكرة تقبله مستساغة.

«منذ متى وأنا هنا؟ عقارب ساعتي لا تزال واقفة على السابعة إلا عشر دقائق كأنها اتهام، في حين لا يمكن أن يكون الوقت أقل من منتصف الليل. ما الذي يمكن أن يكون حدث في هذه الأثناء في البيت ذي الباب الأزرق؟ ألا يزال الطفلان ينتظران أن أعود لأحممهما أم تكون الأم تولت عني العمل؟

هذا الواقع الغريب الذي يستدعي ذكريات سابقة، كالحبيبة السابقة «أمبيث» فائقة الجمال، التي «كانت تحتفظ بحياتها لنفسها. فلم تكن ببساطة تجد داعياً للبوح لي بأي من أسرارها، فكنت أشعر بأن غرابتها استلبتني»، تعود الخصوصية والغرابة رغبة ملحة.

تبدو مواجهة «ديفيد» حتمية لماضيه، تدور الفكرة الفلسفية للرواية حين يبدأ «ديفيد» في استكشاف كوخه الجديد/ القديم، ثم يأتي طغيان الأبواب مرة أخرى، من خلال صور فوتوغرافية متناثرة في كوخه «ثمة إحساس بالكتمان، بالسرية، ليست مجرد أبواب على المجهول، بل على ما ليس إلى معرفته من سبيل، غموضها أبدي، عصي على النوال». هذه الأسرار التي تنكشف ببطء من خلال لوحات استديو «سارة الزوجة الشابة» ولوحاته الخاصة التي باع بعضها في الماضي: «صور تنوعها مذهل، مناظر في المدينة، أشجار، مجاميع من الناس، قطط، وجوه أفراد، هناك مجموعة كاملة من اللقطات الحميمية، بعضها لعري كامل والبعض أثناء ارتداء لثياب داخلية أو خلعها، وبعضها لأجزاء من الجسم». تتغير الرسومات وتظهر أشياء جديدة، وكأن مع كل «إعادة للنظر» تتضح أمور جديدة، «ويزداد الأمر سوءاً حينما أعي حقيقة أنني مع كل جولة جديدة بالجدران ألاحظ في ما يبدو أشياءً جديدة، لا في ترتيب الصور فقط بل وفي تكوينها، بداخلها هي نفسها». هذا الانتهاك للخصوصية يدفع البطل لإعادة النظر لحياته السابقة، حينها يقتنع بأنه «لا أعرفُ ما الذي يجعل كل ذلك يعاودني الآن، ولكنني أعلم تماماً أنني لا بد أن أرجع إليها، أن أنالها، من جديد، واحتضنها من جديد بقوة بأمان». يتفاجأ «ديفيد» بأن بناية «كليرمونت» التي سكنها مع زوجته ليديا لم تعد موجودة، والشقة الرقم 1313 في الطابق 13 «تبددت كأنها قارب في الضباب، وليديا لم يعد لها وجود، وما من مكان الآن أرجع إليه، ما من مكان على الإطلاق إلى أن أعود إلى حي جرينبوينت الذي جئت منه للتو، أرجع إلى الباب الأزرق الذي كنت أنا من طلاه بنفسه».

اختتم برينك روايته بنهاية مفتوحة، مفزعة، يترك القارئ يترنح بين واقعين، والتساؤل حول: أيهما هو الحقيقة؟ وأيهما الحلم؟ نعم، يبدو أن لكل خيار احتمالاً، فأيهما ستختار لو سنحت لك الفرصة؟

يذكر أن أندريا برينك، الذي يعد واحداً من أهم أصحاب الإسهامات في تحديث الرواية المكتوبة باللغة الأفريقية، له عدد من الأعمال الأدبية كروايته «موسم أبيض يابس» الصادرة عام 1979 وتحولت إلى فيلم، ورواية «لحظة في الريح» (1976) وتحكي قصة علاقة بين امرأة بيضاء ورجل أسود، و «شائعات المطر»، وهاتان الروايتان وصلتا إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر للرواية. وتوفيَّ برينك في شباط (فبراير) الماضي، بعدما عمل سنوات طويلة أستاذاً فخرياً للغة الإنكليزية وآدابها في جامعة كيب تاون.

عن صحيفة الحياة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم