تقدّم اليوم العديد من الأعمال الروائية بيانات نعي قاسية للأحلام الكبيرة والآمال العريضة التي انهارت أمام العنف الذي بات يجتاح الشرق الأوسط في مشهده العام، فكأنما تبشر بموت بات منتشرا بكل أوجهه البشعة، وتطرح هذه الروايات تساؤلات تظل مفتوحة على العدم مشرعة على إجابات عديدة تتناسب وزاوية رؤية السؤال.

يملك الكاتب المصري محمد ربيع في روايته “عطارد”، المرشحة مؤخرا في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، زمام السرد ممسكا بأطراف الحبال كلها في المشاهد المتعاقبة عبر ضمير “الأنا” الذي استخدمه في فضاءاته الغريبة. هذه الفضاءات تبدو كأنها لوحة بيضاء أمامه والكاتب هو الرسام الذي لا يملك من الألوان إلا الأحمر، الذي تتقاطع فيه الدماء مع النار، فكانت العتبة الأولى بخيط رفيع من الدم سرعان ما انفتح على مشهد الأضحية نهار العيد، تلك الفضاءات أبعاد أراد الروائي ألا تحدّها حدود ففتح لها آفاق الجغرافية لتشمل الوطن كله.

الزمان المفتوح

مصر التي نعرفها اليوم باتت في رواية “عطارد”، الصادرة عن دار التنوير في بيروت، مبنية على طبقات من الزمان والمكان على حدّ سواء، فالزمان يسير على ثلاثة مستويات، الأول في عام 2025 حيث تقع مصر تحت الاحتلال من قبل مَن يُعرَفون “فرسان مالطا” و الثاني عام 2011 من خلال طفلة صغيرة اسمها زهرة تفقد ذويها في ثورة يناير فتطوف بالثلاجات والموتى بحثا عنهم قبل أن تصاب بمرض غريب يتناسب مع أجواء الرواية التي تكاد تُصيب القارئ بالاختناق، أما المستوى الثالث من الزمان فهو التاريخ القديم الذي عاد به محمد ربيع إلى عام 455 هجري حيث استنهض شخصية صخر الخزرجي، الذي يحمل اليقين الذي يسعى الروائي لإثباته عبر شخصية النقيب أحمد عطارد.

فكرة الرواية الفانتازية غير المعقولة ضمن نطاق التفكير البشري تقوم على فكرة محبوكة تقوم على عمودين، الأول هو أن القيامة حدثت في زمن مضى، والثاني هو تناسل الحكايات من الحكاية الرئيسية، الحكاية التي ضمت في جنباتها كل التفريعات التي انطلقت منها الشخصيات للإيغال في الدم، ففي رواية “عطارد”، الواقعة في 304 صفحات، لا يوجد أحد بريء، البريء فقط هو ذلك الذي لم يولد بعد.

يسيطر الدم على أجواء الرواية وربما من هنا جاء رسم شخصية البطل ذات البعدين الفراغيين، فمِن جهة هو ضابط في الشرطة يشرف على التحقيق مع قاتلٍ التَهَم زوجته وأبناءَه بعد أن خسر أمواله في البورصة، ذلك التحقيق الذي يجعله يكتشِف أنه قاتل بالفطرة، وبصورة أدق تدفعه إلى اكتشاف القدرة على التخيل عنده حيث يرى نفسه ممسكا بأطفاله وزوجته ليقتلهم كما فعل القاتل، لكنّ الدافع هنا لم يكن فعل القتل لأجل الإجرام، وإنما القتل لأجل الخلاص من الجحيم، الجحيم الذي يمتد عبر الحكاية بأشكال متعددة فهو ليس نارا ولا بردا فقط وإنما علاقات اجتماعية وعقد سياسي واجتماعي وديني ركيك، العقد الديني الذي لا يقترب منه الراوي إطلاقا فنراه يلجأ إلى العلم الذي يأتي بعد الاكتشاف ويبتعد بقدر استطاعته عن استخدام المعرفة التي تأتي بعد الجهل، في هذه النقطة تحديدا أراد محمد ربيع أن يفرض الشخصيات بصفتها المتخيلة والبشرية في آنٍ معا رغم أنها خارجة من حكاية غير معقولة الحدوث في المستوى الواقعي، أما الشق الثاني لشخصية البطل أحمد عطارد فيتمثل في قدرته على استشراف المعرفة من خلال إيغاله في الدم بعد أن آمن بفكرة حياة الجميع ضمن الجحيم.

الواقع والخيال

رغم استناد الرواية في بدايتها إلى الميثيولوجية الدينية إلا أن الروائي سرعان ما يتخلص من تلك القيود ليفرض رؤيته لفكرة الجحيم التي تقوم عنده على أساس متخيل غير واقعي بأن الإنسان يعيش أساسا في الجحيم وموته الآني هو خلاص له من هذا العذاب، ورغم عدم وجود المقابل الموضوعي والمكاني للجحيم الذي يطرحه الكاتب من خلال “الجنة” مثلا فإن القارئ قادر على إدراك ذلك البعد الخفي الذي ظلّ مفتوحا على الأسئلة كلها دون إجابات، وماذا بعد؟

عطارد الكوكب الأقرب إلى الشمس والأكثر ارتفاعا في حرارته وهو أيضا قاتل محترف اكتشف أن الجحيم يسيطر على الكرة الأرضية لأن القاتلين هم الأكثرية بينما الضحايا الأبرياء قلة قليلة، الضحايا الذين يتعرضون من الضابط أحمد عطارد ومن أحمد عطارد قائد مجموعة البرج إلى الموت المجاني، لا يكتشفون أن عليهم الرحيل خلاصا من العذاب اليومي، الرحيل الذي لم يأتِ بالراحة أبداً، نرى ذلك في فكرة توالد الألم وظهور أعراض غريبة على الجسد البشري في لعبة السرد.

يمكن القول إن محمد ربيع استند في روايته إلى أجواء فانتازية خاصة في ما يتعلق بالجانب النفسي الآدمي وإلى ارتكازات حقيقية تاريخية استنهض من الماضي ما يتناسب في حدوثه مع الحكاية كتقسيم القاهرة إلى شرقية وغربية ووجود الحاكم العسكري على الطريقة الأميركية في احتلال بغداد عام 2003. كما اختصر ربيع بيان النعي وزمن أسئلة العدم في الجملة الأخيرة من روايته، حيث يقول “ورأيت أن الجحيم دائم لا ينقطع، أزلي أبدي، وأن كل شيء سيفنى في النهاية ولن يتبقى سواه، وعلمت أني خالد في الجحيم، وأنني ابن الجحيم”.

عبدالله مكسور

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم