رواية حارس الموتى للروائي اللبناني جورج برق ، أُختيرت من ضمن الروايات الست في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية والتي سيعلن عن الرواية الفائزة بعد أيام قلائل ، ترتكز حارس الموتى على سارد واحد هو عابر ليطاني ، بلغة شيّقة ومكتنزة لاحشو فيها وتحمل ومضات إنسانية يتوقف عندها القارىء كثيرا ويستلذ بمعناها ودلالتها ، صوت آخر إشترك بالسرد من خلال سطور قليلة لا تتعدى نصف صفحة حين يدع حذاءه تتحدث بنبرة طريفة عن ذكرياتها مع قدميه عندما يتخلّص من حذائه بعد تلفها ، أجل ما أقسى الحياة على كائن أعزل يجد في براد الموتى أمانا لحياته من قتلة يتوّهم انهم يطاردونه نتيجة جرم لم يقترفه ، حيث يقول اصبح البراد المكان الوحيد الذي اجد فيه الدفء والأمان وبات الموتى رفاق عزلتي ، لم اكن اكلمهم وأبوح بهواجسي ومخاوفي بصوت مسموع لكنهم كانوا يسمعوني.. وتبقى حبكة الرواية تجذبك لمتابعتها وذلك لتنوّع مجريات الأحداث فيها ، لكنها تفقد رونقها بالصفحات التي تتعلق بمحاولة سرقته خزانة نقود المشفى فهو حدث هامشي لايستحق كل هذا العناء بتدوينه ، ولعل عملية اغتصاب امرأة من قبل رفاقه في منطقة نائية والبطش بعشيقها وإشتهاء جثة شابة ميتة والتغزل بعريها ومشهد تنظيف وغسل وحشو جثته بيديه ومشهد سرقة سترة جلدية من احدى الجثث ومشهد هياجه الجنسي في براد الموتى وحلاقة ذقون الموتى مقابل إكرامية بخسة من اهل المتوفي وسرقة الأسنان الذهبية من افواه الجثث ، تبقى من المشاهد المؤثرة التي تجسد تناقضات الوازع الإنساني وخسته وضعفه أمام المغريات التافهة ، برغم ان عنوان الرواية حارس الموتى لا تتضح معالمه وفعله الا عند الصفحة 147 ، بمعنى ان السرد الذي سبقه لا يمت لعنوان الرواية بأية صلة ، اذ كان يرصد حركة بطل الرواية عابر ليطاني حين تورط بتهمة خطف الأستاذ في ضيعته والذي شاهده ينزف عند مكب قمامة اثناء نزهة صيد ، ثم هربه الى بيروت وإنخراطه كمقاتل في حزب لم يعلن الروائي عن هويته ولكن هناك إشارات تشير الى ان عابر ليطاني انخرط مع مليشيات مسيحية ويصبح اسمه عتريس القناص . وهذا يعني ان عنوان الرواية لم يكن شاملا لجميع احداثها ولم تتضح معالمه الا بعد عمله في براد الموتى ، هذا الأمر ينسحب على رواية نوميديا أيضا التي رشحّت للقائمة القصيرة أيضا ، فعنوانها لا يظهر الا في الجزء الأخير من الرواية ، وهي مثلبة فنية اذ من الأفضل ان يكون عنوان اية رواية شاملاً لأحداثها وكما عبّر الراحل القاص البصري الكبير محمود عبد الوهاب عن العنوان الشامل بثريا النص ، حتى يصبح العنوان بؤرة اشعاع تنبثق منه الأحداث ويحتضن تداعايتها ، كما ان عزيزي صديق عتريس الذي كان يسهر معه بين حين وآخر ، والذي وجد مقتولا في منزله ، ظلت مذكراته مبهمة بعد ان اكتشف عتريس إنها إختفت من تحت بلاطة قدم السرير الأمامي ؟ فمن قتله وأين اختفت مذكراته ؟ وهي الهفوة الوحيدة التي وجدتها برواية حارس الموتى ، لقد اتيحت لي فرصة مطالعة جميع روايات القائمة القصيرة بسباق البوكر لهذا العام ، ووجدت ان مؤهلات السرد في الروايات الأربع عطارد ، مصائر ، مديح لنساءالعائلة ، سماء قريبة من بيتنا لا تسعفها ان تكون بموازاة حارس الموتى ونوميديا ، ولا يمكن لها الإقتراب من منصة التتويج ، فهي لا ترقى من وجهة نظري المتواضعة الى عذوبة السرد بروايتي حارس الموتى ونوميديا ، فهما مثل حصاني سباق يعدوان بنسق واحد للظفر بجائزة البوكر ، لقد إستوقفتني هذه الجمل السردية برواية حارس الموتى والتي تزخر بها ، وحرصت ان تطلعوا عليها ، فهي رواية محبوكة بتقنية سارد محترف .. فهو يقول ، هناك اناس مختصون بالحذف وبالزيادة حتى يغدو الحدث الذي حصل في الواقع هو غيره على ألسنة الناس ، الليل عدو الغرباء ، المشي أستاذ الجغرافيا بإمتياز ، المطر في القرية اكثر رحمة منه في المدينة ، الذليل يريح السلطة ، أما عزيز النفس فيزعجها ، الحرب كالعاهرة كلاهما لاتشبع ، الأولى من الدماء والثانية من الرجال ، إحدى قواعد الشرب وخصوصا العرق ، تقضي بتغيير الكأس كلما فرغت ، الضجر احد اسباب استمرار الحرب ، أفضّل ان أغادر المكان جثة على ان انعت بالجبان ، لاقضية لي كي أضحي من اجلها ، كثير من رفاقي هم مثلي جاؤوا الى الحرب مضطرين ، لكنهم يحاربون من اجل الظفر بغنائم من البيوت والمتاجر ، الجندي يستشرس متى تأكدت له إستحالة النجاة ، بنت الهوى تمنح جسدها لكنها لا تمنح فمها الا لمن يملك روحها ، أنبل السكارى هم الذين ينامون بعد الشرب ، فينجون من شماتة الآخرين بهم ، غريب خط الأطباء عندما يكتبون ، كأنهم لايريدون ان يفهم احدٌ عليهم سوى زملائهم والعامل في الصيدلية ، ما أتعس الأشجار التي تهجرها العصافير ولا يقيم فيها سوى الغبار والذباب ، الصياد الحقيقي يلتذ بصيد الطير وليس بأكله ، المرأة يخنقها السر المتعلق بسواها ، إن لم تبح به ، العذاب عندما تألفه تخفّ وطأته ، طالما تفاديت النظر الى السماء بصحوها كي لا تذكرني زرقتها بزرقة الموت ، مجحف بحق البشرية ان تموت محتويات العقل ومكنونات النفس بموت البدن ، الحيرة تخنق الحب إن لم تلمع نجمة اليقين من وراء الظنون ، الشك لا يستكين الاّ بعد بلوغ الحقيقة ، والحقيقة مكلفة .أقول في نهاية المطاف ربما هذه الشذرات المضيئة تدع حارس الموتى يخطف البوكر او يقتسم الجائزة مع نوميديا الخرساء .

عن صحيفة الزمان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم