جعل الكاتب والأكاديمي العراقي كنعان مكية مقتل رجل الدين الشيعي مجيد الخوئي في العاشر من نيسان/ أبريل 2003، ويوم سقوط الطاغية (صدام حسين) العمود الفكري والأخلاقي لروايته "الفتنة"(*)، فمن بعد هذين الحدثين دخلت العراق في مرحلة أشد بؤساً من الزمن البعثي.

إختار مكيّة، في روايته المصنفة سياسية، أن يقترب قدر الإمكان من حقيقة الأحداث في يوم إعدام صدام حسين، وإعادة بناء ما حدث من خلال مصادر متعددة. الشخصية الرئيسية في الرواية، شاب شيعي ينتمي إلى ميليشيا "جيش المهدي". وهو يروي أحداث الرواية من وجهة نظره، ويظهر في الرواية مرتدياً بدلته العسكرية ويقف على المنصة التي ينتظر أن يُعدم عليها صدام، وينظر إلى الجمهور الذي جاء للحضور: "أتطلع الى الحضور الهائج، رأيت غضب رجال مذعورين أصابهم العمى، كانوا عميانا حتى وهم يظنون أنهم مبصرون، مذعورين وهم يظنون أنه لم يعد هناك ما يخيفهم".

قلق الشاب من وحشية عملية الإعدام ينقله في رحلة يعود فيها إلى الماضي، إلى طفولته في النجف وهي المكان الذي يقع فيه اغتيال مجيد الخوئي. ويروي مكية كيف قتل الخوئي على يد أتباع مقتدى الصدر الذي سبق أن صدرت بحقه مذكرة إلقاء قبض لتورطه، ولكن لم يتم العمل بها وما زال حراً طليقاً.. جاء الخوئي ليحتمي بالصدر فطعن بالسكاكين، يقول مكية في كتابه "هوامش على كتاب الفتنة"(**): "مسألة التغطية (الشيعية) على مقتل السيد مجيد بحد ذاتها أهم من جريمة القتل نفسها"..

ولهذا اختار مكية كلمة "الفتنة" عنواناً للرواية في اللغة العربية، بدلاً من كلمة خيانة. قتل مجيد الخوئي، والتغطية عليه يظهران "منذ البداية أن لا أحد في البلد كان له البصيرة والروح العالية ليقف أمام حدث تاريخي كبير مثل سقوط الطاغية وحزبه اللذين حكما العراق لأكثر من ثلاثين سنة".. ويقول راوي القصة في الجزء الثاني من الكتاب: "إذا كان أولئك الذين أصبحوا قادتنا لا يترددون عن خيانة شخصية بارزة من بينهم، فماذا عنا نحن عامة الشيعة. ناهيك بغير الشيعة. هنا هناك من لن يكونوا مستعدين لخيانته".

وصدام الآخر الذي يورد ذكره في الجزء الثالث من الكتاب، شخصية اختلقها مكية لتكون بنفس قسوة صدام الحقيقي، ولكنها اذكى وأكثر ثقافة. لا يتبرأ هذا "الصدام" الخيالي من جرائمه. بالعكس، يحلل بهدوء وقناعة ضرورتها في المجتمع العراقي بالاخص، ومن ثم يربط نوع حكمه بالتراث العربي الإسلامي بصورة عامة. فمن هذه "الأرضيّة" اشتق هذا الصدام أفكاره وطبقها في العراق. بطبيعة الحال، هذا الصدام الذي هو من نسج خيال المؤلف يحب الكلام وينطلق من معرفته العميقة بمصادر الفكر السياسي الحديث، بالإضافة إلى التاريخ العربي الإسلامي، وبالأخص تلك التي تضفي مشروعية على القتل والتعذيب وتبرر العنف في السياسة.

ويلفت مكية إلى أن هتلر الذي ورط كامل الحضارة الغربية، في ظهوره على حلبة السياسة العالمية، ويعلل أفكاره العنصرية واللاسامية، بالضبط كما فعل صدام بالنسبة إلى الحضارة العربية والإسلامية. ويسأل ما المقصود هنا؟ يجيب: "نعم صدام شخصية خيالية. ولكنه ما زال وسيبقى شخصية متأصلة بنا، نحن العراقيين. ومتأصلة بنا كعرب وكمسلمين. وهذه الهويات الثلاث (العراقية والعربية والإسلامية)، كصدام نفسه، موجودة ومتجذرة في حياتنا رغم موته. وكما القائد العربي الاسلامي لم ينزل من المريخ، كذلك عصابة الثلاثة عشر (البيت الشيعي العراقي) الذين لم يفهموا أو يستوعبوا الثقافة السياسية المتحضرة أثناء وجودهم في المنفى. ففي الرواية بقي هؤلاء بأفكارهم وأساليب تعاملهم مع العراقيين، نسخة من صدام، يكرهونه ولكنهم يشبهونه ويقلدونه.. فـ"الذين لا يعرفون غير سوط الطاغية، لا يفهمون الرجال الذين يعيشون تحت مظلة قوانين أخرى في الحياة.. ينظرون باحترام لأولئك الذين يحملون الأسواط فقط.. هم يفهمونهم".

مكية استاذ للدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة "برانديز" الأميركية منذ عام ١٩٩٥. أصدر كتابي "جمهورية الخوف" و"النصب"، الذي تناول فيه تواطؤ المثقفين العراقيين مع نظام صدام. وتلاه كتاب "القسوة والصمت"، الذي عاد أيضاً إلى انتهاكات نظام صدام بما فيها القتل العشوائي والجماعي للشيعة والأكراد.. وتطرق إلى صمت المثقفين العرب تجاه تلك الانتهاكات، أي الظلم الذي قامت به دكتاتوريات العالم العربي باسم العروبة أو أولوية الصراع ضد الإمبريالية وإسرائيل؟ وانتقده كثيرون في حينه، متسائلين لماذا لا يكتب عن مأساة فلسطين وشيطنة إسرائيل. وتطرّق كتاب "القسوة والصمت" إلى موضوع كان ثانوياً وأصبح في الصدارة في كتاب "الفتنة"... وهو بشاعة ما قام به بعض المنتفضين المظلومين خلال انتفاضة 1991 في أماكن في العراق.

مكية المؤيد العلني للغزو الأميركي للعراق في عام 2003، يبدو متشائماً في نظرته إلى مستقبل العراق، ويعتبر ما فعلته عصابة الثلاثة عشر، لا يختلف عن أفعال صدام. يقول في ختام كتابه: "أعتذر أولاً من الشعب العراقي، وثانياً من الطائفة الشيعية، لأنني لعبت دوراً قبل حرب 2003 لإضفاء الشرعية الدولية والعالمية على أولئك الذين كنا نسميهم طيلة التسعينيات المعارضة العراقية، وهم الذين حكموا العراق بعد عام 2003، هؤلاء لا يستحقون وصفهم بمعارضين لنظام البعث، ولا يستحقون أن يحكموا أحداً".

"الفتنة" رواية تؤرخ لمرحلة ما بعد صدام، ولا تقل أهمية عن "جمهورية الخوف"، ولا تكفي عجالة صغيرة لنقاشها، خصوصاً أن صاحبها شخصية مثيرة للجدل.

* صدرت عن منشورات الجمل، 2016. عن صحيفة المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم