تحويل الحكايات الشعبية والأساطير والميثولوجيات إلى بنية لخطاب الأعمال الأدبية، لاسيما الرواية، بات أسلوباً شائعاً بوصفه محاولةً للإندماج مع ما هو خارج المتن الرسمي وللإنعتاق من موضوعات نخبوية. بمحاذاة ذلك، يكون الإهتمام بالأحاديث والحكايات التي تشكّل جزءاً من يوميات سواد الناس ركيزة للأعمال الروائية. وهذا المنهج هو ما يَعمَلُ به الروائي التونسي كمال الرياحي.

يريدُ كمال الرياحي أن يفسحَ المجالَ لصوت مَن يسعى الخطاب النخبوي لتهميشه وطرده من حظيرة التاريخ. وهو لا يتورّع في كشف خطأ القيم السائدة، ولا يكفُّ عن مشاغبة مَن ينتحل صفة حارس القيَم أو مُسيّر شؤون الأخلاق، على حدّ قول ماكس فيبر.

إغراءات البداية

تكمن في أسلوب الرياحي جينات نيتشوية، ويحاول تفنيد تصوّرات مسبقة عن شرائح منبوذة، ويلقي الضوء على نزعات إنسانية عميقة في شخصية مَن لفظه المجتمع.

تمتزج في روايته «المِشْرَط» الحائزة على جائزة «كومار» في تونس، الخرافات الشعبية والتخيّلات السوريالية مع الموضوعات الإجتماعية والسيرة الذاتية والقضايا السياسية. كما يتفاعل هذا العمل تناصياً مع نصوص شعرية، حيث يلاحظ القارئ تأثّر الكاتب بمقاطع من قصائد نزار قباني، خصوصاً ما هو منتشر على المستوى الجماهيري. كما يقتبس نصوصاً من الكتاب المقدّس ويكسر السرد بإستخدامه كلمات لأدونيس وأمثال شعبية. ويُقيمُ علاقةً مع تقنية الخبر الصحافي. كما يستفيد من الأساليب التقريرية فضلاً عن صيغة التناسل الحكائي.

البحث عن الأسباب

بدايات العمل الروائي تلعب دوراً كبيراً في إيصال رسالة المضمون وتحفيز المتلقّي لفكّ شفراته. هنا في رواية «المِشْرَط» يكون القارئ أمام نصّ يكشف هوية العمل والموضوع الذي يتناوله. وما يضفي طابعاً إغرائياً لكلمة البداية هو وجود عنوان الصحيفة التي تكفل مهمة نشر العمل وما يتضمّنه من القصص التي قد تجدها متباعدة من حيث الثيمات.

لكنّ تجمّعها بنية واحدة وهي البحث عن الأسباب وراء الكوارث والخروج من الفراديس. وذلك ما تلاحظه من القسم الأول، حين ينهار البيت على والدَي الراوي عقب قرار الأم بالإنقضاض على الثعبان الذي كان يساكنهم في البيت.

هنا مفهوم البيت يتّخذ دلالة وجودية «ويعاود ظهوره مرّة أخرى كحلم اليقظة ويعيش مع الإنسان طيلة الحياة»، حسب تصوّر غاستون باشلار. لذلك تتضمّن الرواية قصّة خروج آدم وحواء ويتخيّل الراوي إتهامات آدم الموجّهة لحواء كونها سبباً لخسارة الفردوس.

إستنطاق التمثال

يتّخذ السردُ منحىً عجائبياً عندما يستنطق الراوي تمثال إبن خلدون إذ يبدأ الأخير بسرد حكايته في بلاد المنافيخ وذكر عاداتهم وتقاليدهم وحرق إمرأة قد حبلت بالمخاخ، وهو طائر ممسوخ هجين من البغل والإنسان يأكل المُخ. كما يشكو صاحب المقدّمة من المثال الذي قد نحت تمثاله وأعطاه كتاباً قد ملَّ منه، ويبدي إنزعاجه من سالم بن حماش الذي قد إستقى مادة روايته (العلامة) من سيرته.

يأتي إستدعاء شخصية إبن خلدون في سياق النص مقصوداً لأنه كان شاهداً على ظهور الحاكم المتسلّط (تيمور لنك)، كما يعتبره البعض نموذجاً للمثقف النفعي والمتقرّب من السلطان حيث ينتشر هذا النموذج في زمن الهزيمة. يظلّ إبنُ خلدون حاضراً حتى نهاية الرواية وآخر ما نقرأه هو قصته مع شهلاء الحمراء التي مات زوجها في لحظات حميمية.

تتنوّع صيغ الحكاية وتراوح أساليب السرد بين الذاتي والموضوعي، ولا تنفردُ شخصية واحدة بمهمة الحكي. بل تتناوب أكثر من شخصية على سرد الوقائع والأحداث وغالباً ما يكون بولحية أو نيفرو في موضع الراوي، إضافةً إلى «الثابتة» حارس مبيت البنات، حيث يتنظر رواد المقهى ما يُكشف لهم من أسرار البنات ومغامرات النساء مع السلطان في كلّ يوم إثنين. وأُطلق على جلساته «حديث الصباح في فرجة المساء»، وذلك تحوير لعنوان إحدى روايات نجيب محفوظ «حديث المساء والصباح».

مع الثابتة يتحوّل السرد إلى أنفاق متداخلة، يمتزج حديثه بما تبوح به هندة عن وقائع ليلتها مع السلطان حيث تخلع على الأخير كلّ صفات البطولة والنزق. زدْ على ذلك فإنّ صاحب «عشيقات النذل» يدعم السرد بما يوهمنا بأنه مقتطفات من الصحف العربية تحيلنا إلى تواريخ مختلفة وأحداث متنوّعة. وهذا ما يحملك على عدم الإنقطاع عن الرواية، ويضيف عنصر التشويق إلى كلّ الوحدات.

دوامة الشك

تنتظم كلّ القصص داخل قصة أساسية، وهي البحث عن شخص يركب دراجة حمراء يستهدف بمشرطه أماكن حساسة في جسد النساء. وهذا الشبح يثير لغطاً ونقاشاً في أوساط ثقافية وسياسية، بحيث تتمّ مناقشتها على صفحات الصحف. وتختلف الآراء حول هوية راكب الدراجة، كما تتباين التفسيرات حول الأسباب التي تدفع به إلى إستهداف منطقة معيّنة من جسد ضحاياه.

حيث يعتقد البعض بأنّ الجاني ليس إلّا إمرأة تكره بنات جنسها خصوصاً الحسناوات، ولديها عقدة فتجد متنفّساً فيما تقوم به. بالمقابل ثمّة مَن يقدّم تصوّراً مغايراً فيرى بأنّ الجاني هو رجل عاجز عن إقامة التواصل مع النساء، ويحاول تعويض الإعاقة بترك الآثار على أجسادهِنّ.

يمتدّ النقاش إلى المجاميع الدينية، كما يطال الشكُ الجميع بمَن فيهم نيفرو وبولحية وإبن الحجاج وشخصيات أكاديمية. هنا نصل إلى أحد محاور الرواية، إذ أيّاً كان الجاني وهويّته وجنسه فإنّ المجتمع يتحمّل مسؤولية وجوده، ولا وجود لمَن يمتلك مناعة تحول دون أن يكون جانياً في المستقبل. هذا المحور يبرّر وجود الرواية بغضّ النظر عن طريقتها أو أسلوبها، لأنّ هناك خمسة ملايين طريقة لكتابة القصة كما يقول جيمس جويس.

عن صحيفة الجمهورية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم