تعدّ جائزة الشيخ زايد للكتاب أهم الجوائز العربية التي تحتفي بالكتّاب وبالثقافة العربية سواء في لغتها أو في لغات أخرى، وقد احتفت الجائزة منذ تأسيسها بالثقافة العربية والمثقفين العرب الذين أعطوا لحضارتهم زادا معرفيا وفنيا وجماليا يمثل الركيزة الحضارية الأساسية لشعوبهم. وقد أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب عن نتائج كل فروعها الأدبية والبحثية والعلمية، وبقي فقط فرع واحد هو جائزة الشخصية الثقافية لهذا العام والذي أعلن عنه أمس الأحد بأبوظبي. أبوظبي - أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب الأحد قرار الهيئة العلمية ومجلس أمنائها بمنح لقب شخصيّة العام الثقافيّة في دورتها العاشرة للكاتب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسية أمين معلوف، تقديرا لتجربة روائيّ حمل عبرَ الفرنسيّة إلى العالَم كلّه محطّات أساسيّة من تاريخ العرب، وتاريخ أهل الشرق عامّة، كما سلّط أضواء كاشفة على شخصيّات نذرت نفسها لإشاعة الوئام والحوار الثقافيّ بين الشرق والغرب، وأعاد خلق تجارب فذّة ومغامرات مؤثّرة، وتميّز في هذا كلّه بأسلوب أدبيّ يجمع مفاتن السّرد العربيّ إلى منجزات الحداثة الغربيّة في الكتابة الروائية وكتابة البحث الفكري.

تعدد الهوية

عاش أمين معلوف (المولود في 25 فبراير 1949) الحربَ الأهليّة اللّبنانية التي خبرَها عن كثب وتركت وقعها في صميم حياته الشخصيّة. ليقرّر بعد ذلك اصطحاب زوجته وأطفالهما والرّحيل إلى باريس. هناك اشتغل الكاتب في مجلة “النهار العربيّ والدّولي” الأسبوعية، كما اشتغل في المجلّة الفرنسية “جون أفريك” أو “أفريقيا الفتاة”. وكان قبل ذلك قد درّس الاقتصاد وعِلم الاجتماع في جامعة بيروت، واشتغل في صحيفة “النّهار” البيروتيّة، متخصّصا في نقل الأحداث والسياسة الدولية، فزار من أجل ذلك ما يزيد عن ستّين بلدا، وغطّى أحداثا كبرى من بينها حرب فيتنام.

بعد سنوات فاجأ معلوف القرّاء بكتابه الأوّل بالفرنسية “الحروب الصليبيّة كما رآها العرب” (1983). في هذا الكتاب كشف عن مجالي شَغَفه الأساسيّين، بالتاريخ من جهة، وبالكتابة السرديّة من جهة أخرى. وكانت الحروب الصليبيّة تشكّل أحد المواضيع الأساسيّة في الدّراسات التاريخية والنصوص الأدبية التي تستلهم التاريخ بالفرنسية، لكنّها نادرا ما عُرِضَتْ من وجهة نظر العرب، ما جعل معلوف يقدّم كتابه ليضيء مناطق معتمة من تاريخ الحروب الصليبيّة كما عاشها المجتمع العربيّ بمختلف شرائحه وانتماءاتهم ويكون ذلك موضوع كتابه المحوري، حيث وصفَ الكاتب أحداثا تاريخية من الحروب الصليبية وحلّلها بمنتهى الموضوعية والتجرّد العلميّ، مستندا إلى نزعة إنسانية شفافة تميّزت بها كلّ أعماله اللاحقة، إذ يأسف في كتابه للدّماء المراقة ولهذا العنف الشامل الذي يجعل من هذه الحروب في رأيه لا سلسلة حروب دينيّة فحسب كما يرى بعضهم، بل صدمة حضارات حقيقيّة قد يكون أثرها ساريا حتّى اليوم.

بعد هذا الكتاب توالت أعمال معلوف التي امتازت بمزيج دائم بين التّاريخ والسّرد، دون أن تنحصر في الاهتمام التّاريخي فقط، ولا في السرّد وحده. فإلى جانب رواياته التي تستلهم التاريخ البعيد “ليون الأفريقيّ” (1986) و”سمرقند” (1988) و”حدائق النّور” (1991) و”رحلة بلداسار” (2000)، نجد روايتين تستعيدان الماضي القريب للبنان وللمنطقة، ألا وهما “صخرة طانيوس” (1993) و”موانئ الشرق” (1996)، ورواية معاصرة للأجواء والشّخوص “التّائهون” (2012)، وكتابا ينتمي إلى السّيرة الذاتيّة واستعادة التاريخ العائليّ “بدايات” (2004)، ورواية أخرى من الخيال العلميّ مكتوبة على خلفيّة هموم معاصرة تماما هي “القرن الأوّل بعد بياتريس” (1992)، إضافة إلى مؤلّفَين فكريّين هما “الهويّات القاتلة” (1998) و”اختلال العالَم” (2009)، كما كتب معلوف نصوصا أوبراليّة، نذكر منها “الحبّ عن بُعد” (2001) و”الأمّ أدريانا” (2004) و”مأساة سيمون”(2006) و”إيميلي” (2010).

يلاحظ في أعمال أمين معلوف أنّه يؤسس لعالم أدبيّ قائم على التّرحال، وعلى تعدّد الهويّة أو التعدّد الثقافيّ، لا بمعنى نكران الوطن الأمّ أو الثقافة الأصليّة، بل بمعنى الحقّ في مواطنيّة عالميّة وإنسانيّة متّسعة تشمل أكثر من لسان، وأكثر من ثقافة، وأكثر من ارتباط جماليّ وفكريّ وثقافيّ. وهذا كلّه ينعكس في حياة الشّخصيات الروائية التي كتبها معلوف، فغالبيتها تتكلّم عدّة لغات، وتحذق أكثر من فنّ، وتتعدّد مَواطن إقامتها تبعا للانقلابات التاريخية وتَعاقُب المآسي والهجرات. شخصيات معلوف العديدة، يقع أغلبها ضحية للأحداث، لكنّه يتفنّن في إعادة ابتكار مصائرها، اعتمادا على مواهبه وإيمانه بحصّة الإنسانية العالية التي في داخله. وفي جل هذه الأعمال نشهد حضور شخصيات تلعب دورَ جسورٍ حقيقيّة بين الثقافات والشعوب وبين شتّى أشطار الإنسانيّة.

مخاوف الإنسان

نثر معلوف عناصر من تاريخه الشخصيّ والعائليّ ومن تاريخ لبنان في مختلف رواياته وأعماله الأخرى، حيث عبّر عنها تلميحا أو على نحو مشفَّر أو رمزي. فسواء في “ليون الأفريقيّ” أو “رحلة بالداسار”، في “صخرة طانيوس” أو في “موانئ الشرق”، وسواء كانت التجربة التاريخية المعالَجة في هذه الرواية أو تلك تنتمي إلى الأمس البعيد أو إلى الماضي القريب، ثمّة تجارب في التّجوال والتّيه والتعدّد الثقافيّ واللغويّ ومعاناة الحرب والمنفى والتوحّد، تلقى تعبيرا لها على ألسنة شخصيات الروايات بعد أن خبرَها الكاتب نفسه وعاشها في مسيرته الشخصيّة.

ولكن بعد أن تقدّم أمين معلوف في تجربته الإبداعية ونشر أعمالا عديدة، رجع إلى تاريخه العائليّ، ووضع فيه كتابه الضّخم “بدايات”، الذي يعود فيه بلغة الرّواية إلى البحث عن الوجوه الأثيرة لهذا التّاريخ وعاداته وطقوسه ومَشارِب أفراده. في محاوراته أيضا، يعود معلوف إلى تاريخ العائلة والبلاد والمنطقة ليسلّط عليه إضاءات كاشفة ويُغْنيه بتأمّلاته. من هذه المحاورات نعلم مثلا أنّه نشأ في حارة “رأس بيروت” في العاصمة اللبنانيّة، حارة مختلطة كان أترابه فيها مسيحيّين ومسلمين، لبنانيّين

وفلسطينيّين ومصريّين. وإلى جانب العربيّة، لغته الأمّ، انفتح عبر الاختيارات الثقافيّة لأبيه، وهو أيضا صحافيّ وأديب، على اللّغة الإنكليزية، وعبر اختيارات أمّه انفتح على الفرنسيّة.

هذه النشأة وما تبعها من قراءات وخيارات شخصيّة وتجارب حيّة، جعلت معلوف يعتبر الهويّة الواحدة، المكتفية بذاتها والمتطلّعة إلى الهويّات أو الثقافات الأخرى بتعالٍ أو خوفٍ، وبانغلاقٍ، نوعا من الحبس والتضييق للأفق الجمعيّ وإفقارا للحياة. وقد لقيت هذه الأفكار صدى واسعا في القراءات المخصّصة لأعماله. فبالإضافة إلى الدّراسات الجامعيّة والقراءات النقديّة التي تعنى بالتقنيات السّرديّة لدى معلوف، أو بتخاصب التاريخ والسّرد في نصوصه، تركّز دراسات أخرى على علاقات الهويّة والذاكرة والانتماء في كتبه، وعلى تعدّد الانتماءات عند شخوص رواياته، وعلى بحثه عن شجرة أنسابه، وعلى ذاكرة الأصول وكتابة المنفى عنده.

بهذه الموضوعات التي تمسّ في الصّميم مخاوف الإنسان المعاصر ومصادر قلقه وكذلك آماله، وباللّغة المسخّرة لتناولها، لغة شاعرية تتميّز ببراعة السّرد الذي يستنطق التاريخ، ضمن أمين معلوف لأعماله الأدبيّة مكانة مرموقة في المشهد الأدبيّ. وبفضلها رأت الهيئة العلميّة لجائزة الشيخ زايد للكتاب ومجلس أمنائها فيه كاتبا جديرا بنيل جائزتها في فرع الشخصيّة الثقافية لسنة 2016.

ويذكر أنّ الفائز بلقب “شخصية العام الثقافية” يمنح “ميدالية ذهبية” تحمل شعار جائزة الشيخ زايد للكتاب وشهادة تقدير بالإضافة إلى مبلغ مليون درهم إماراتي، وسيتم عقد حفل تكريم الفائزين في الأول من مايو 2016 في مركز أبوظبي للمعارض على هامش معرض أبوظبي الدولي للكتاب.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم