عدنان حسين أحمد: البنية النفسية والثقافية في رواية “عِشق” لمريم مشتاوي
صدرت عن “دار المؤلف” في لبنان رواية “عِشق” للشاعرة والروائية البريطانية اللبنانية مريم مشتاوي. وكدأبها في مشروعها الشعري فقد استثمرت العديد من تجاربها الشخصية في هذه الرواية السايكولوجية بامتياز ذلك لأن الشخصية الرئيسة، وساردة النص “عِشق” هي نموذج للبطلة المأزومة التي تكبو غير مرة وتحاول النهوض من كبواتها المتتالية التي أخذت طابعًا أموميًا وإبداعيًا وعاطفيًا. ولو تأملنا هذا النص الروائي الصادق لوجدنا بطلته الإشكالية تتعمق في تأويل ثنائيات الحياة والموت، والوجود والعدم، والجمال والقبح من خلال تجربة ذاتية أصيلة لا يرقى إليها الكذب أو التشويه. ولعل رهانها على مصداقية هذه التجربة المريرة التي عاشتها البطلة هو الذي وضع نصها في خانة النصوص الناجحة على الرغم من بعض الهَنَوَات التقنية التي يمكن أن نتجاوزها ونغضّ الطرف عنها في العمل الأول.
لا تقتصر إشكالية الشخصية على عِشق وحدها وإنما تمتدّ إلى أبويها حيث اقترن الأب عبدالله بأمها ياسمين كي يُرضي والدته وشقيقته نبيلة مع أنه كان يحب أسماء عبد الحميد، وهي امرأة متزوجة ولديها أولاد من زوجها حسن. ينتمي عبدالله الأبيض إلى نمط الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، فهو مهندس إليكتروني، ومدير عام لشركة “ثري أم” في الشرق الأوسط، وشاعر جيّد، وكاتب فذّ ينشر مقالات أسبوعية في صحيفة المنبر. وأكثر من ذلك فهو مثير للريبة، ويتهمه أبو روبير “بالعمالة ودعم الفلسطينيين في المخيمات” ولابد من طرده من الحيّ بأكمله. وبما أن اسمه قد ظهر على اللائحة السوداء فلابد أن يهرب ويترك زوجته الحامل ويستقر به المقام في مدينة نيويورك. ربما تكون إشكالية الأم ياسمين أنها قبلت بالزواج من رجل لا يحبها الأمر الذي سيعرِّض العائلة إلى التصدع والانهيار ويترك تأثيرًا سلبيًا على عِشق التي مرّت بتجربة حُب فاشلة مع كريم لكنها تركته ويمّمت وجهها صوب لندن بغية إكمال دراستها العليا ونيل درجة الدكتوراه. حينما تلتقي عِشق بأبيها في مدينة نيويورك تطرح عليه سؤالين مهمين طالما أرّقاها، الأول: لماذا ترك أمها وهي حامل؟ والثاني: لماذا لم يسأل عن ابنته بعد كل هذه السنوات الطوال؟ وإذا كانت اللائحة السوداء هي عذره الوحيد في التخلي عن أمها فما الذي كان يمنعه من السؤال عن ابنته أو الاتصال بها؟
أفكار مهيمنة لابد من الإشارة إلى أن الروائية مريم مشتاوي قد نجحت في تطريز النص بأفكار مهيمنة هي أقرب إلى المفاجآت التي تدهش المتلقي الذي يلج غابة عذراء مثل مقولة نيتشه التي خصّبت بها النص وأنارت غمامته الدكناء جرّاء المناخ الدايستوبي المتمثل بالقصف والموت ورائحة القمامة وما إلى ذلك حيث يقول: “إنّ أسمى أنواع الجمال ليس ذلك الذي يُفتننا على الفور، بل الذي يتسللُ إلينا ببطء نحمله معنا ونحن لا نكاد نشعر به” (ص30). وثمة أفكار تعلقْ في ذهن القارئ لأنها تنطوي على تنبؤ قد يقع مثل مقولة الأب التي يُعرب فيها عن مخاوفه لابنته عِشق حينما يقول: “يا بنتي تغيّرت الدنيا. . هلأ أنتِ سمكة زغيرة بالمحيط وأنا خايف عليكِ” (ص35). هذا الإرصاد يشي بحدوث ما لا تُحمد عقباه خصوصًا وأنها سافرت إلى لندن بعد قصة حُب فاشلة قد تعالجها بقصة حُب أخرى لكنها لن تكون بالضرورة ناجحة. وبما أن شخصية عِشق إشكالية، ومثقفة، ومستديرة في آنٍ معاً فإنها قادرة على الإدهاش، ومتمكنة من دفع الأمور في الاتجاه الصحيح. تتضاعف الأفكار المهيمنة، والتعالقات الذكية، والمخصّبات النصيّة كلما تصاعدت الأحداث وازداد توترها الدرامي. فحينما تستقبلها الصحفيّة “نور” في بيتها وتخرج معها في سهرة بمناسبة “هالوين” تشرب عِشق إلى حدّ الثمالة حتى تجد نفسها في اليوم الثاني في منزل إرستقراطي وإلى جوارها رسالة مكتوبة باللغة الإنكليزية مفادها: “حبيبتي يجب أن أذهب مبكرًا إلى العمل. اعتبري نفسكِ في بيتك. أراكِ في المساء. أليكس″. لقد تخلصت من الإحباطات العاطفية التي سبّبها “كريم” لكنها وقعت في فخ جديد حينما اكتشفت أنها حامل من رجل لا تعرف عنه شيئًا، ولا تتذكر ملامح وجهه. وعلى الرغم من إلحاح صديقتها نور بأن تتخلّص من الجنين مبكرًا إلاّ أن عِشق أصرّت على الاحتفاظ به لأنه قطعة من كبدها. المُلاحظ أن إيقاع الرواية سريع جدًا. فالجنين الذي كانت تتحدث عنه عِشق قد ولد الآن وأصبح طفلاً صغيرًا اسمه جاد. وحينما ترتفع درجة حرارة رأسه تحديدًا تأخذه نور إلى مستشفى نورثويك بارك في غياب أمه وحينما تأتي هذه الأخيرة مسرعة يطمئنها الطبيب بأن صحة الطفل جيدة لكننا نكتشف بعد قليل أن جاد لديه كتلة سرطانية، ثم يتعزز هذا التشخيص بأنه نوع غريب من السرطان لا علاج له.
أسئلة فلسفية تتصاعد الأسئلة في رأس عِشق مثل بركان يفور حتى يغدو الفصل الثاني من الرواية غابة شائكة من الأسئلة الفلسفية والوجودية، فحينما تؤنِّب نفسها على الإثم الذي ارتكبته تتساءل بحرقة: “معقول هيدا تمن الخطيئة. . تمن إني سكرت ونمت مع رجل غريب؟ بس ليه جاد؟ ليه جاد يدفع تمن خطيئتي أنا” (ص60). يتحول الموت إلى فكرة مهيمنة وهاجس متواصل فتسترجع صديقتها “روزا” التي ماتت بين يدي أمها جرّاء القصف الوحشي في “بعبدا”. وفي هذا المستشفى أطفال كثيرون يصارعون الموت، بعضهم يشفى بأعجوبة وبعضهم الآخر يخسر معركته مع السرطان، خصوصًا تلك الأنواع الميؤوس منها، تمامًا مثل النوع اللعين الذي أصاب جاد وأخذ من صحته مأخذًا كبيرًا. هنا تحديدًا تتكثف النبرة الفلسفية أمام الضعف البشري الذي لا يفهم معنى الموت المبكر، ولا يستغور أسراره العصيّة حيث تقول الأم بيأس مطلق: “ما أهمية الحُب حين نقف عاجزين أمام الموت؟”(ص63). وحينما لا ينفع حجم الحُب الذي تغدقه الأم على ابنها الوحيد الراحل لا محالة تلوذ بآيات الكتاب المقدّس، وتستجير بالسيد المسيح الذي ينادي جميع المتعَبين، والثقيلي الأحمال بغية إراحتهم فتتعالق معه مستفهمة: “لمَ لا تريحني. . أنا لست متعبة فحسب، بل أشعر أني أحتضر” (ص 64). يتعمّق سؤال الموت ويزداد غموضًا كلما أيقنت الراوية أن الحياة ستستمر حتى لو مات كل الأطفال في هذه المستشفى أو في غيرها. فنحن محكومون بالتقدّم إلى أمام، ويتوجب على عِشق أن تفهم جيدًا “أن الحياة أكبر من الموت وأعظم من الحب” (ص64). لم تقف “نور” مكتوفة الأيدي وإنما كانت تؤازر عِشق في محنتها لحظة بلحظة حتى اقترحت عليها أن تعود لكتابة الشعر لأن القصيدة وحدها كفيلة بتحريرها من هذا الألم الممضّ. فإذا كان علاج الفشل العاطفي بحبٍ جديد فإن علاج الفقد بكتابة نص شعري جديد يحوِّل الوجع الإنساني إلى قيمة شعرية حقيقية تلامس وجدان المتلقي، وتهزّه من الأعماق. فلاغرابة أن تسارع في الذهاب إلى الطبيب النفسي الذي سيشرف على علاجها الدوري ويكتب لها حبوبًا ضد الكآبة والإحباط. سيظل الطبيب النفسي حاضرًا حتى نهاية النص الروائي، فرغم التقدّم الملموس الذي حققته عِشق دراسيًا ونيلها لدرجة الدكتوراه وتعيينها في جامعة الملكة إلاّ أن اضطراباتها النفسية ظلت كما هي عليه ولعل أبرز تجليات هذا الاضطراب هو اختراعها لقصص وهمية لا تحدث إلاّ في مخيلتها المشوّشة.
الشخصية المستديرة يحضر الشاعر العراقي محمد سلام كشخصية عميقة ومثقفة تقود عِشق في معظم الأوقات، وتُسدي لها النصائح، فهو شاعر متميز، ومسؤول القسم الثقافي في صحيفة “الأخبار”، ومناضل يساري هرب من دكتاتورية صدام مثلما هربت عِشق من بشاعة الحرب، ودكتاتورية كريم، وقساوة الراهبة الفرنسية. وحينما تقرأ له بعض القصائد يبدي وجهة نظره الصريحة ويقول بأنها “مشروع شاعرة” لكن هذا المشروع لن يتحقق على أرض الواقع إلا بالقراءات الكثيفة، والتجارب المعمّقة لكنه يعترف بصدق قصائدها، ويلتفت إلى النفحات الشعرية المبثوثة بين طياتها غير أن القصيدة من وجهة نظره “لا تكتمل إلاّ بالمعرفة، ونضوج المشاعر والتكثيف”(81). لا شك في أن وراء هذه القسوة النقدية محبة كبيرة وغامضة قد لا تفسرها الكلمات فهي ترى فيه والدها الجديد الذي يعوّضها حنان الأب الهارب من اللائحة السوداء، والفشل العاطفي، والزواج القسري. وهو يرى فيها سجنه الذي أُحتجز فيه كلما رآها محبوسة في الغرفة الزجاجية مع جاد، كما أن الموت المفجع لطفلها يذكِّره بموت شقيقته جرّاء السرطان أو العدو المشترك لهما. لم تنتصر عِشق على الاضطرابات النفسية لكنها كانت تحقق تقدمًا في الجوانب الثقافية بفضل صديقها محمد سلام حيث بدأت قصائدها تتكثف شعريًا، وصار يلمس قدرتها على تجسيد الوجع الإنساني وتحويله إلى قيمة شعرية ملموسة، لكنها بالمقابل بدأت تخترع قصصًا وهمية من نسج خيالها حيث نتعرّف على المذيع التونسي هادي دربال الذي لمس يدها فشعرت بشيء يشبه ندفة الثلج أو رقرقة الماء يداعب مخيالها العاطفي ويستجيب لأوهامها التعويضية. بعد موت جاد ودفنه في “تشزيك” تغادرنا نور إلى مثواها الأبدي في حادث سيارة ببيروت لتشكِّل ميتة تراجيدية ثانية في النص لكن عِشق تلقي اللوم على نفسها فهي التي دعتها مع محمد سلام إلى بيروت لحضور حفل تكريمها ولولا هذه الدعوة لما واجهت مصيرها المحتوم ولاغرابة في أن تلوذ بالعذراء هذه المرة لتعترف أمامها بأنها قتلت نور بشكل من الأشكال. ومع ذلك فإن الخيال يشتطّ بها إلى الدرجة التي تعتقد بها أن “جاد” لم يعد وحيدًا في عليائه وأن صديقتها نور سوف تعتني به، وما على عِشق إلاّ أن تهتم بكتابة القصيدة حتى وإن خسرت أعزّ الأشياء.
خيانات وهمية يكتشف محمد سلام في زيارته إلى تونس خيانة هادي لعشق حيث يرى في حضنه امرأة سوقية غير أن عِشق لا تريد أن تحطم الصورة الجميلة التي رسمتها لهادي لكنها كانت تتساءل في سرِّها قائلة: هل من المعقول أن يخونها هادي؟ تتسارع الأحداث ثانية فيطلب منها هادي أن تنتقل معه إلى تونس خصوصًا بعد أن جلب لها خاتمًا من زمرّد وجبّة تونسية لكنها تعتذر لأنها لا تستطيع أن تترك لندن التي تضمّ جاد ونور والأستاذ محمد، ولا تريد لنبض ذكرياتها أن يخفت لذلك حكمت على هذه العلاقة بالموت حتى وإن كانت هذه العلاقة محض أوهام وهلوسات نفسية لا غير. تصل الرواية إلى مرحلة حلّ العقدة في الفصل العاشر حينما يلتقي الأستاذ محمد سلام بطبيب عِشق ويتصوره هذا الأخير والدها فيخبره بأن حالتها الصحية لم تتحسن مذ رآها أول مرة عام 2014. هنا يكشف محمد سلام الصورة الحقيقية لعشق التي لا تزال تخترع قصصًا كثيرة، وتصدِّقها، وتعيشها بخيالها حتى تهرب من نفسها ومن واقعها المزري على الرغم من النجاح الثقافي الذي حققته، والشهرة التي بدأت ترسخها يومًا بعد يوم. تبدو شخصية محمد سلام مهيمنة على مدار النص رغم الغموض الذي يكتنف طبيعة العلاقة التي تجمع بين الصداقة الحميمة، والحنوّ الأبوي لذلك تتخلى الساردة عن دورها له لينهي النص الروائي بأسئلة تنطوي على صيغ استفهامية مفادها: متى تتخلصين من هذه الحالة، ومتى تعرفين أن قصة حبكِ لهادي والجسر هما من صنع خيالك؟ إذن، لقد اخترعت عشق قصة حب هادي لا شعوريا كي تنسى وجع جاد، وبدل أن تشفى من وجع جاد دهمها وجع جديد وكأنّ العذاب مقدّر على عِشق التي فرّت من الحب ولاذت بالقصيدة.
ملحوظات نقدية نخلص إلى القول بإن رواية “عِشق” لمريم مشتاوي هي رواية نفسية وثقافية بامتياز، فالشخصية الرئيسة هربت من الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها الخطيرة عليها بوصفها كائنًا بشرياً مُرهفًا قد يُصاب بعطب في أي لحظة، ثم تلاحقت الصدمات، النوم مع أليكس، التفكير بالإجهاض، إصابة جاد بالسرطان، وفاته الصادمة، علاقتها الوهمية بهادي، خياناته اللامتوقعة، لكنها بالمقابل كانت شاعرة، وقارئة نهمة تلتهم روايات جرجي زيدان أول الأمر، ثم لفت محمد سلام عنايتها إلى إليوت، رامبو، ريلكة، مروين، المتنبي، السيّاب وأنسي الحاج وعشرات الأسماء الإبداعية الأخرى التي غيّرت ذائقتها الأدبية، هذا إضافة إلى تخصصها الدقيق في اللغة العربية الذي أمدّها بحصانة في اللغة، والأسلوب، وتطويع الكلم. أما محمد سلام فهو شاعر مجوِّد، وكاتب مرموق على احتكاك متواصل بالثقافة العربية والعالمية. في حين كانت نور صحفية بارعة وهي التي هيأت لعِشق فرص نشر قصائدها الأولى التي أشاعت اسمها بين القرّاء. أما عبدالله، والد عشق، فقد كان شاعرًا هو الأخرى ولديه عدة مجموعات شعرية لكن جسده المفتول العُضُل أبعد عنه صفة الرومانسية. وأكثر من ذلك فإن هادي نفسه شاعر أيضًا لكن محمد سلام كان يعتبره إنسانًا ساذجًا ومسطحًا إلى أبعد الحدود. يشكِّل عدم التوازن في الفصول العشرة نقطة ضعف أساسية في الرواية، فالفصلان الأول والثاني يغطيان 72 صفحة من الرواية التي تقع في 157 صفحة بحيث أن بعض الفصول الأخيرة في الرواية لا يتجاوز أربع أو خمس صفحات. ثمة فارق كبير في التوهج اللغوي الذي لمسناه في الفصلين الأول والثاني لكن هذا التوهج سرعان ما يخفت في الفصول اللاحقة. كما ترتبك الجملة السردية الروائية في بعض الأحيان لتصبح جملة مقالية في أفضل الأحوال أو جملة صحفية لا تنطوي على حرارة الأدب بسبب كثرة التداول والاستعمال اللذين أفقداها بريقها الإبداعي. لابد من الإقرار بأن بناء هذه الرواية كان رصينًا، وأن اللعبة الفنية التي اعتمدتها مشتاوي في المزج بين الحقيقة والخيال هي التي أمدّت النص بالكثير من عناصر النجاح. وقد لعبت الجمل الفكرية، والعبارات الفلسفية المستقطرة، والإحالات الذكية، والمخصبات النصيّة دورًا مهمًا في إثراء هذا العمل الذي وقف في خاتمة المطاف على قدميه كنص روائي أول سوف يمهِّد الطريق لكاتبته أن تلج حقولاً أخرى في الفضاء السردي الواسع. جدير ذكره أن مشتاوي شاعرة أيضًا، وقد أصدرت حتى الآن عددًا من المجموعات الشعرية نذكر منها “ممرّ وردي بين الحُب والموت”، “هالوين الفراق الأبدي”، “حبيبي لم يكن يومًا حبيبي” و “حين تبكي مريم”. كما تكتب مقالات نقدية ودراسات أدبية في عدد من الصحف العربية. وتدير صالونًا ثقافيًا يستقطب الأدياء والمثقفين العرب والأجانب في لندن.
عن صحيفة رأي اليوم
0 تعليقات