ألا تشبه رحلة الإنسان في هذه الحياة المراحل التي تمرّ بها اليرقات؟ فمنها التي تموت وهي في طور النموّ، ومنها التي تسقط قبل أن تتمكّن من صنع شرنقة الحرير حول جسمها، ومنها التي تستطيع الصّمود، فيصلب هيكلها، وتثبت استعدادًا للمرحلة المرتقبة، وهي الخروج من الشرنقة إلى الحريّة؟ رواية «صائد اليرقات» لأمير تاج السّرّ، صدرت طبعتها الثالثة عن «دار الساقي» (2016) وكانت قد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربيّة 2011.

تتداخل في هذه الرّواية الأحداث، وتتناسل الحكايات، فيجد القارئ نفسه أمام مجموعة من الشّخصيّات تحمل كلّ منها مشروعًا، تسعى إلى إنجازه على الرّغم من ابتعادها من الواقع؛ عبد الله حرفش أو فرفار، كما يُلقَّب، رجل أمن متقاعد، قرّر أن يكتب رواية. وهو الذي لم يسبق له أن قرأ رواية في حياته. صار يرتاد مقهى الجميز حيث يجلس الروائي المشهور (أ. ت.)، وأراد أن يتعلّم منه طقوس الكتابة. يصف الرّاوي محاولات عبد الله حرفش الأولى في التّأليف، لم يستطع أن يتخلّى عن العقليّة الأمنيّة، فإذا بالنّصّ الذي كتبه يأتي على شكل تقرير أمني، يشبه تلك التقارير التي كان يحرّرها أثناء عمله. تتكشّف الذهنيّة الأمنيّة في مفاصل متعدّدة من الرّواية. أينما تواجد حرفش، ينظر إلى الحاضرين بعين متوجّسة، يراقبهم، يتفحّص حركاتهم، يتصرّف وكأنّه لا يزال يمارس مهمّة رجل الأمن.» هؤلاء تسكّعت في وجوههم كثيرًا مستخدمًا خبرتي في التّقصّي، وخُيّل لي مرارًا أنّهم كتّابٌ هواة يبحثون عن نصّ يكتبونه».(ص.57) ويقول في موضع آخر عن صاحب مقهى الجميز «أيقنت من خبرتي الطّويلة في رصد الارتباك أنّه متوجّس من شيء ويبحث عن طمأنينة، وربّما يمارس نشاطًا يدعو إلى التّوجّس».(ص.93) استطاع الراوي أن يصوّر تملّك هذه المهنة، وتسلّطها على كيان الشّخصيّة، إلى أن باتت أقوى منها. يسخر أمير تاج السّرّ على لسان حرفش من الصّورة التّقليديّة للمرأة التي تنصرف فقط إلى الثرثرة والإنجاب (ص 11). لم يقدّم، على غرار الروايات العربيّة، صورًا نمطيّة للمرأة التي تكون حبيسة المنزل، وتتعرّض إلى العنف النفسي والمادي، إنّما قدّم صورة المرأة التي توازي الرجل، وتواكبه (العمّة) ترافقه في أسفاره، بدلّت نمط حياتها بما يتناسب والعمل الجديد الذي حصل عليه الزوج. قدّمها شريكة، وليس تابعة، أو خاضعة.

كذلك (س.) كاتبة مبتدئة، تلتقي الروائي (أ. ت.) تعبّر عن إعجابها بكتاباته، ولا سيّما في روايته «على سريري ماتت إيفا». تحاول (س.) أن تستفيد من تجربته. تظهر في نهاية السّرد روائيّة مبتهجة تحتضن نسخة من كتابها، تُلتقط لها الصّور في حفل التّوقيع.(ص.152) ومن الشّخصيّات التي تناضل في سبيل تحقيق حلمها، المدلّك زوج عمّة حرفش، الذي «ظلّ منذ شبابه المبكر يطارد كتّاب الدّراما والمخرجين المسرحيّين ليوظفوه في أيّ دور». (ص.100) يسخر حرفش من المدلّكَ الذي بدأ مجرّد هاوٍ يشارك في دور بسيط في مسرحيّة «موت رجل أبله». «هو في الحقيقة ليس دورًا وإنّما «تكملة عدد» كما يقولون». (ص.118) ومع نهاية السّرد، يتحوّل زوج العمّة إلى نجم إعلانات. إذًاً، الشّخصيّات في مجملها نامية، لم يقدّمها الكاتب مكتملة منذ بداية عمله الروائي، إنّما بنى عمارتها شيئًا فشيئًا من خلال الأحداث التي تطوّرت على مدى الفصول العشرين. لم تبقَ الشخصيّة في شرنقتها، بل اكتملت، ونضجت، وصارت ملهمة للعمل الإبداعيّ، كما يفاجئ الكاتب المتلقّي أنّ الروائي المشهور(أ.ت.) استلهم موضوع روايته الجديدة من حياة عبدالله حرفش، وجعله محور عمله، بعد أن صنع له ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا. وتبقىة «صائد اليرقات» عملًا روائيّا يستحقّ التّوقّف عنده. وفي كلّ مرّة نعيد قراءتها، قد يسأل القارئ نفسه إن كان قدره أن يولد يرقة ميتة في العالم العربي، حيث تصطرع الأهواء والمفاسد، أم أنّه لا زال ثمّة أمل في الخروج من الشّرنقة إلى فضاءات الحريّة والحياة؟

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-04-06 على الصفحة رقم 12 – ثقافة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم