كثيرة هي الأعمال الروائية التي يأخذ فيها الإذلال والممارسات القمعية دور البطل الحقيقي، فتنشأ تلك العلاقة الكابوسية بين الضحية والجلاّد، والتي نقلتها روايات بصور متعددة ومختلفة لكنها تشترك في عوامل الكشف والفضح لأحداث تميّزت بالعنف والقهر والقمع من قبل أفراد أمعنوا في التعذيب حتى انتفت عنهم صفة الإنسانية، وتحولوا إلى ما يشبه الكلاب المسعورة التي أطلقها صاحب السلطة لتُقام حفلات التنكيل على شاكلة أفلام الرعب. لتنتهي الصورة بهوة جحيم مفتوحة تبتلع المعذبين وأجسادا ممزقة ودماء مهدورة مأساة لا تنتهي.

تونس - تعيد رواية “كلاب الجحيم”، أحدث أعمال الكاتب التونسي إبراهيم درغوثي إحياء انتفاضة سكان الحوض المنجمي بمحافظة قفصة (جنوب غرب تونس) ضد الظلم والقهر والحيف والفقر في ظل نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي عام 2008، ولكن بأسلوب سردي أخاذ يمتزج فيه الواقع مع الخيال وما هو كائن مع المحال. جاءت الرواية في 117 صفحة من القطع المتوسط. وتحكي رواية “كلاب الجحيم” انتفاضة الحوض المنجمي لكن بأسلوب فانتازي (خيالي) بعيدا عن أسلوب الواقعية الاجتماعية. هي رواية الأرض. أرض تنبت ذهبا لكن ناسها يموتون من التهميش والقهر والظلم والأمراض. ليس بأسلوب مباشر بل امتزج الواقع بالغرائبي بحضور الجن والشعوذة والسحر والتراث القصصي العربي الإسلامي.

رمزية الكلاب

وتحمل الكلاب في الرواية، الصادرة عن دار زينب للنشر والتوزيع، بعدا واقعيا بعد أن استعمل النظام وقتها الكلاب لقمع الانتفاضة، إضافة إلى مدلول رمزي يحيل على رأس المال المتكالب على السلطة والثروة.

تسحرك رواية “كلاب الجحيم”، فتنغمس فيها طوعا ولا تغادرها إلا كرها. تشدك الحكايات الخرافية والأجواء الغرائبية، فيتلاشى الخيط الفاصل بين الحقيقة والأسطورة ليجد القارئ نفسه أمام واقع أسطوري أو أسطورة واقعية.

وجاء على الغلاف الخلفي للرواية “لئن اهتمت أحداث السرد في رواية (كلاب الجحيم) بالوقائع التي عاشتها شخصيات الرواية في تلك الفترة العصيّة من تاريخ تونس، فإن وشائج كثيرة تربطها برواية إبراهيم درغوثي السابقة (وراء السراب قليلا) التي أرّخت بصوت المبدع لبدايات العمل في مناجم فوسفاط قفصة إبان الاستعمار الفرنسي”.

يقول المؤلف درغوثي “بينما كانت الرواية الأولى تصرخ في وجه المستعمر المباشر لتونس ضد القهر والظلم. فإن هذه الرواية تعيد الصرخة بصوت أعلى ولكن هذه المرة ضد الفقر والتهميش والحقرة (الاحتقار) لمدن المناجم على مدى أكثر من نصف قرن”.

تأتي المشاهد السردية في الرواية في شكل لقطات أو فصول صغيرة عددها 39 فصلا تبدو منفصلة لكنها في الواقع مرصوصة كقطع بنيان “يشد بعضه بعضا”.

يوميات انتفاضة

والرواية تحاكي يوميات انتفاضة سكان الحوض المنجمي وما عانوه من محن ووحشية في مواجهة “جند السلطان”.

وبدأت الرواية بأصوات نباح توقظ الراوي كل ليلة “نباح أجش كنباح كلاب الجحيم يدوي في الغرفة حتى أخاله يأتي من تحت سريري”.

تكشف الأحداث المناورات بين السكان والثائرين وأعوان السلطة وتفضح المؤامرات التي حيكت ضد سكان المناجم وتحتفل بصمودهم في وجه النظام السلطوي الذي نهش آمالهم وأحلامهم في الحياة عندما نبشوا بأيديهم الأرض “فجنى هو الفوسفاط” ولم يغنموا هم سوى الفتات.

ويقول في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان (طيور الأبابيل) “كانت الكلاب جاهزة وكانت متحفزة وتنتظر أن تفتح لها الأبواب، فانطلقت كمردة الجان في كل الاتجاهات تقتفي أثر أصحاب الحجارة تعض وتنهش وترهب الصغار والكبار. لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر”.

يستدعي الكاتب عالم الجن والشياطين وطلاسم السحرة وتعويذات الشعوذة وحكايات من الخرافة الشعبية وقصصا من القرآن والسير الإسلامية، وبلغة راوحت بين سجع المقامات وأسلوب الرواية الحديثة لتضفي سحرا على الأجواء الغرائبية للرواية.

وفي “كلاب الجحيم” يحارب الجن جنبا إلى جنب مع السكان المنتفضين يحذرهم من غزوة “عساكر السلطان” ويؤجج الاحتجاجات بل إنه حتى يصاب بالرصاص وتنزف دماؤه “وصل سمحون الرئي (جن يُسمع ولا يُرى) إلى المتلوي وهو ينزف، فقد أصيب في رجليه الاثنتين وفي أحد أجنحته بشظايا قنبلة يدوية ألقيت عليه وهو يتجسس على السيارة التي نقلت الموقوفين من الرديف إلى سجن قفصة”.

وبعد أن كانت الكلاب في بداية الرواية وحوشا تثير الخوف والرعب انتهى بها الأمر أمام ميتة بملابسات مريبة لا يعرف فيها الفاعل أو صاحب البيت الذي دفنت فيه.

ويقول في الفصل الأخير الذي جاء بعنوان (صاحب البيت) “ينبشوا أرضها ويبعثروا عرضها حتى تزلزل هذه التربة زلزالها وتخرج أثقالها، ففعلوا فعل المكره عن نبش القبور قبل النفخ في الصور، فاكتشفوا عددا من بقايا الكلاب لا يحصي عددها إلا بيطري السلطنة الأكبر أو الملك الأحمر”، ويتابع “فتجمع خلق كثير أمام منزل الموت والكل يسأل عن صاحب البيت”.

وإبراهيم درغوثي (60 عاما) قاص وروائي ومترجم ولد بمحافظة توزر (الجنوب التونسي) عام 1955، ويشغل منصب نائب رئيس اتحاد الكتاب التونسيين. صدرت له عدة مؤلفات في القصة القصيرة منها “النخل يموت واقفا” و”الخبز المر” و”رجل محترم جدا”، وروايات “الدراويش يعودون إلى المنفى” و”القيامة الآن” و”شبابيك منتصف الليل” و”أسرار صاحب الستر” و”وراء السراب قليلا” و”وقائع ما جرى للمرأة ذات القبقاب الذهبي” و”الطفل العقرب”.

وسبق أن حاز درغوثي عددا من الجوائز والتكريمات من بينها جائزة الطاهر الحداد في القصة القصيرة عام 1989، وجائزة الكومار الذهبي لجائزة لجنة التحكيم عام 1999 عن مجمل أعماله الروائية، وجائزة الكومار الذهبي لأفضل رواية تونسية عام 2003 عن “وراء السراب قليلا”، وجائزة المدينة للرواية عام 2004 عن “مجرد لعبة حظ”، وجائزة القدس الكبرى للقصة القصيرة في أبوظبي عام 2010.

عن صحيفة العرب نُشر في 31/03/2016، العدد: 10231، ص(14)

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم