في عالم تنقلب فيه الموازين، ويكاد يخرج عن قواعد علم الاجتماع، ولا تطبّق عليه النّظريّات الفلسفيّة، ولا الأحكام المنطقية، ولا يعرف لغة إلّا لغة الجهل، وحيث صارت مشاهد الذّبح مألوفة، ولا من قانون دوليّ أو سلطة تحاسب، تعود بنا رواية الكاتب أيمن مارديني»غائب عن العشاء الأخير» (منشورات رياض الرّيّس) إلى زمن كان يُعدّ الانتساب إلى حزب يساري تهمةً، يعتقل الفرد على أثرها، ويتعرّض إلى أقسى ألوان التّعذيب. هناك، في المعتقل، تفقد نهى جنينها من رفيقها وحبيبها راشد، الذي يُعتَقل هو الآخر. وتتناسل المآسي والحكايات في الرّواية، وتأتي على شكل تداعيات من ذاكرة الشّخصيّة الأساسيّة نهى، التي ترتبط بها مختلف مفاصل السّرد ارتباطًا عضويًّا، وتبقى حاضرة في الفصول الاثني عشر. قد تكون «غائب عن العشاء الأخير» صندوق خيبات يتوزّع على مختلف الشّخصيّات، نالت كلّ منها حظًّا وافرًا، تعيش معظمها مأساة، ونهاياتها خاسرة. فإلى جانب حكاية نهى ـ التي تحمل للمرّة الثّانية بعد خروجها من المعتقل، يصوّر الرّوائي خيباتها المتتالية، من موت طفلها، إلى اختفاء حبيبها راشد وسفره، ثمّ اعتقاله، وخيانتها بعد خروجه، وزواجه من نانو ـ تظهر خدّوج، صديقة نهى أثناء الاعتقال، وتتحوّل من عاهرة إلى داعية دينيّة. تلتقيان تحت المطر، تستعيدان شريط ذكرياتهما. تستعرض خدّوج معاناتها في سبيل تأمين قوت أولادها، ومن ثمّ تختفي من مسرح الأحداث، مثل ذرّات غبار محتها يد المطر. وتروي حياة، جدّة نهى، حكايةَ حبّها مع راشد، وقد حُكِم على تلك العلاقة بالموت إثر تزويجها من ابن عمّها. ولكنّها، في أعماقها، وفي دفاترها، تحتفظ بذلك الحبّ الذي لم يهرم. يظهر الحبيب راشد ولكن بعد فوات الأوان، يوم وفاة حياة. والخيانة سمة لازمة لأبطال مارديني؛ يتخلّى معظم الرّجال في الرّواية عن حبيباتهم. وفي حين ينصرف كلّ منهم إلى تأسيس عائلة جديدة، تظهر الشّخصيّات النّسويّة عاجزة عن متابعة المسيرة من دون الرجوع إلى ذكريات الحبيب الأوّل، الذي يفرض نفسه في حياتهن. فضلًا عن الخيانة، يبرز العنف مكوّنًا رئيسًا في بنية السّرد. فالشّخصيّات إمّا أن تكون معنِّفة، أو أن يقع عليها فعل العنف، الذي يصل إلى محاولة القتل. وإذ يقدّم الكاتب نموذجًا عن الرّغبة بالقتل من قبل نهى وراشد، فإنّه بذلك يدفع بالأحداث نحو التّأزّم، ويصبح العنف هو البديل عن الحبّ، ويدفع بالشّخصيّات نحو مصائرها الخائبة. وبقدر ما كانت المرأة معنَّفةً في عالم القصّ من قبل الرّجل، أبًا كان، أو زوجًا، أو حبيبًا، بقدر ما امتلكت سلطة في ذلك العالم. وكأنّ مارديني يحاول أن يعيد إليها قيمتها التي سلبت منها في المجتمع الذّكوري من خلال جعلها محور السّرد. لا بل تخرج من فصول الرواية، وتحاور الكاتب أيمن مارديني، وتتولّى هي متابعة القصّ، واختيار النّهايات، بدلًا منه. وثمّة تداخل بين شخصيّة راشد وبين الكاتب، لم يعد راشد في «غائب عن العشاء الأخير» كائنًا من ورق، إنّما، بذوبانه في شخصيّة أيمن، تحوّل إلى إنسان من لحم ودم. ولم يعد هو الرّوائي فحسب، بل يمكن عدّه رمزًا للرّجل الشّرقي، هو الأب والأخ والجد والحبيب والزوج والسّجّان (أطلق الكاتب اسم راشد على معظم الشخصيّات الذّكوريّة في الرّواية) هو الخائن الذي يتخلّى عن حبيبته التي تحمل جنينه، هو السّلطة الذّكوريّة التي تهمّش المرأة وتقصيها وتتخلّى عنها. فمن هو الغائب عن العشاء الأخير؟ هل يكون الروائي نفسه؟ أم إحدى الشّخصيّات الّتي غيّبتها خيوط المطر الدّمشقي، المتّحد مع صورة الموت في المدينة؟

عن صحيفة السفير

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم