اعتادت الروائية الإنجليزية (بولا هوكينز) (1972) على ارتياد محطة القطار في لندن، الأمر الذي جعلها قريبة إلى حياة الناس العاديين، فكانت حين تقلّ القطار تجلس بالقرب من النافذة، فتسرح في خيالها داخل المنازل الواقعة بمحاذاة سكة الحديد، لتتخيّل حياة الناس في داخلها، لكنها ذات مرة طرحت على نفسها سؤالا مهما: ماذا سيكون موقفها لو أنّها شاهدت وقوع جريمة في منزل من تلك المنازل؟ ما الذي بمقدورها أن تفعله إزاء ذلك؟

استغراقها في هذه الأسئلة جعلها تفكّر في كتابة رواية، بطلتها تدعى (راشيل) تعاني من مشكلات عائلية، مطلقة بسبب عجزها عن الإنجاب، تتعاطى الكحول هربا من كآبتها، تطرد من العمل بسبب إدمانها الشديد، ولراشيل عادة يومية وهي ركوب قطار الثامنة وأربع دقائق، تجلس في المكان نفسه وبالقرب من النافذة، وتسرح بخيالها في البيوت التي تقع بالقرب من المحطة.

هذا ما يبدو مشهدا روائيا عاديا، لكن قوة الرواية في استثمارها الذكي في هذه العادات اليومية التي يمكن أن تكون جزءا من يوميات روتينية، وهو ما يسميه الروائي التشيكي (ميلان كونديرا) بالمبتذل.

الرواية العظيمة لا تتأسس دائما على موضوع عظيم، بل يكفي لها أن تنتبه إلى المبتذل و إلى الروتيني في الحياة لتبني عليه عالما تخييليا فريدا من نوعه، تتشابك فيه الأحداث والمصائر، وهو ما يميّز رواية (فتاة القطار) التي تحوّلت في وقت قياسي إلى ظاهرة روائية حطمت الأرقام القياسية في المبيعات، ونالت صاحبتها على جائزة البوكر في عام 2015.

في رحلاتها اليومية، كانت (راشيل) تشيّد عالما خاصا بها، فأصبحت تعرف الأشخاص الذين يعيشون في المنازل المحاذية لمحطة القطار، بمجرد أن تتخيل في ذهنها تفاصيل حياتهم، ومن بين هؤلاء زوجين مثاليين، كانت تراهما يوميا يجلسان في شرفة منزلهما، فتخيلت لهما اسمين: جس وجيزون، وتخيلت لهما أيضا كل التفاصيل النفسية والسلوكية التي قربتهما إليها أكثر، حتى أنها أصبحت تشعر نحوهما بالألفة على الرغم من أنها لا تعرف عنهما إلا بعض الصور البعيدة.

وبالقرب من منزلهما كان يقع منزلها السابق لما كانت زوجة لتوم الذي تزوّج بامرأة أخرى تدعى (أنّا) وأنجب منها طفلة.

تبدأ الأحداث في التحوّل في اليوم الذي رأت (راشيل) أن جس كانت مع رجل آخر غير زوجها، وكانت تبادله القبل، وهو ما أثار الاستغراب لديها، وهي التي تخيلتها زوجة وفية لزوجها المثالي، وبعد أيام تقرأ في الصحف اليومية عن خبر اختفاء امرأة تحمل مواصفات (جس)، وحسب الخبر فإنّ احتمال الاختطاف وارد، وقد تزامن يوم اختفاء هذه المرأة تعرّض (راشيل) لحادثة غريبة، حيث أصيبت بجروح في رأسها وبكدمات على جسدها في محطة القطار دون أن تتذكر ما الذي حدث لها فعلا، وسيظل ذلك سرا حقيقيا طيلة الرواية، وما زاد من خطورة هذا السر هو تزامنه مع اختفاء (ميغان) التي ليست إلاّ (جس).

ستكتشف (راشيل) أنّ الخيال هو مجرد أوهام فقط يختلقها الإنسان، ويقنع نفسه بأنها قد تكون بديلا عن الواقع، في حين أنّ للواقع قوانينه القاسية، ومفاجآته التي لا يمكن للخيال أن يتكهّن بها، تكتشف أنّ جس وجيزون هما ميغان وسكوت، وأنّ الحياة الرومانسية التي كانت تتخيلهما فيها تخفي حقائقا قاسية، وعالما مضطربا.

ومن حيث لا تدري، تجد نفسها متورطة في قضية تحوّلت بعدها إلى جريمة قتل، بعدما تم اكتشاف جثة ميغان في غابة قريبة من المدينة، فقد اتصلت بالشرطة ثم بزوج ميغان لتخبرهم بأنها تعرف الشخص الذي يفترض أن يكون هو المجرم، وكان المقصود بذلك طبيب ميغان النفسي (كمال أبديك) الذي وقعت ميغان في حبه.

الشرطة لا تريد تصديقها بسبب إدمانها، فشهادتها مرفوضة، لأنّها في الغالب تكون غائبة عن الوعي بسبب الكحول، الأمر الذي زاد من إحساسها باللاّجدوى، وبعجزها عن تقديم خدمة للشرطة ولزوج ميغان.

طبعا، لن أضطر لتقديم نهاية الرواية، احتراما لحق القارئ في اكتشاف نهاية الأحداث المشوقة، لكن لابأس أن نقف عند بعض خصوصياتها الفنية، ولعل من أهمها، انفتاح السرد على ثلاثة أصوات سردية: (راشل)، (ميغان) و(أنا)، حيث تمكننا الرواية من النظر إلى الحدث من زوايا مختلفة، فكل صوت يكمّل فراغات الصوت الآخر، أو يقدمّ رؤيته الخاصة المختلفة، وضمن هذه الأصوات نتمكّن من بناء شخصيات الرواية، علما أنّ الرواية تقدم للقارئ الحقيقة بالتقتير، حتى أنّ القارئ غير الصبور قد يترك الرواية قبل أن ينهي صفحاتها الخمسين الأولى، إنها الرواية التي تفترض قارئا صبورا يتحلّى بطول نفس. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ قوة الرواية في نظري تكمن في قدرتها على ادعاء الجهل بما يحدث لشخصياتها، فالجميع يقف على قدم المساواة في علاقتهم بحقيقة ما يحدث، وهنا تبرز حرفية الروائية في التحكم الكبير في أداة السرد دونما الوقوع في هفوة ما ربما ستنبّه القارئ إلى ما سيحدث لاحقا. ومثال ذلك ما وقع لراشيل في محطة القطار، فقد أصيبت في رأسها، دون أن تعلم حقيقة ما وقع لها: هل كان ذلك بسبب اعتداء تعرضت له؟ أم تعثرت على سلالم المحطة بسبب حالة السكر؟ لا تعرف راشيل ما الذي حدث لها، ويبقى ذلك سؤالا يحيّر القارئ كذلك. ناهيك عن حقيقة المجرم، هل هو زوجها سكوت؟ هل هو طبيبها كمال؟ هل هي راشل نفسها؟ هل يمكن أن تكون زوجة توم (أنا) علما أن ميغان كانت تعتني بطفلتهما؟

تصوّر الرواية نفسية شخصياتها، تمعن في تصوير الحالات السايكولوجية العميقة للشخص المدمن، الذي يعيش مشتتا بين عالمين: عالم الواقع وعالم التهويمات الخيالية، سنكتشف أنّ المجتمعات المعاصرة هي مجتمعات يعاني فيها الأفراد من تشوهات نفسية عميقة، ومن أهم مظاهر هذا التشوه هو الرعب من الآخر، وحالات القلق المزمن الذي قد يتحوّل إلى حالة مرضية تؤثّر في قدرة الإنسان على التحكم في حياته.

المصدر: نوافذ ثقافية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم