النهايات المأساوية للأبطال لا تجسّد انعدام الأمل بعراق جديد ينبثق من جراحه، بل تجسّد الموت الذي ابتلع مئات الآلاف من العراقيين في الحروب الكارثية.

تؤسس رواية “حماقة ماركيز”، للكاتب العراقي عواد علي، لمرجعية نصية تحتفي بالحب بدلا من الكراهية، وتتناول الأحداث التي مرّت على العراق خلال أربعة عقود عبر مجموعة أصوات سردية لنساء ورجال تناولوا الأحداث حسب وجهات نظرهم. من البديهي أن الكاتب الذي يؤرخ لأحداث بعينها عليه أن يستمد محكياته من الواقع، وإذا ابتعد عن الواقع فإنه سيهيم في دنيا الخيال، ويصير الخيال لا الواقع مرجعية لنصه. ولكن ما حيلته عندما يتحول الواقع إلى أغرب من الخيال؟ وكيف يستطيع أن يسجل واقعا يقع في خانة اللامعقول بالمعقول؟ هنا عليه أن يستنجد بما أنتجته المدارس الأدبية في العالم لكتابته للتعبير عن الواقع اللاواقع.

الواقع العراقي الحالي، في جزء كبير منه، هو واقع أقرب إلى ما بعد الخيال، وربما ما نراه يومياً هو في أبسط صوره الخيالية، رجال يموتون وتقطع أوصالهم ثم نلمحهم من جديد يمارسون حياتهم في شخصيات أخرى، أما كيف عادوا للحياة، فهذا له ألف حكاية.

يقول بطل الرواية سلمان البدر “نبي الله العزير أماته الله وحماره مئة عام ثم أحياهما من جديد، ولو حدثت هذه المعجزة اليوم لما صدقها الناس” (ص 34). ويروي سائق سيارة أجرة تنقل جثة البدر إلى أهله، للجندي مراد المكلف بإيصال الجثة، لتمضية الوقت الرتيب أثناء قيادة السيارة من البصرة إلى أرابخا، يروي غرامياته مع الغجريات! (ص36).

العقيد شاهين، الذي تزوج نورهان، حبيبة البدر، يُقتل بتفجير إرهابي بعد العام 2003، وتقول نورهان التي شغفت بروايات ماركيز لأن حبيبها البدر، الذي اختفى أثناء الحرب، كان يحب ماركيز “زاد شغفي به رقة قلبه، فهو يرفض الموت لأبطاله، وإنْ اضطر لقتل أحدهم، فإنه يبكيهم كما لو كانوا أصدقاء” (ص 72).

حكايات الرواية واقعية ولا سبيل لدحضها، فهي جزء من واقع عراقي هلامي: رجال دين لصوص، مواطنون خونة، عملاء للمحتل يقفون في واجهة الصورة كمناضلين وثوار، وكل هذا جزء من صورة مكروسكوبية لواقع بانورامي يعيش على ما خلفته الحروب، والاحتلال، والانتفاضات، والتطهير العرقي والطائفي، والصراع على السلطة والمكاسب.

فعندما يستدعي الكاتب الواقعية السحرية كما كتبها كتّابها، ابتداء من كتّاب ألمانيا وأسبانيا وحتى كتاب أميركا اللاتينية كبورخس وأستورياس وجورج أمادو وماركيز وغيرهم، فهو سيجد أن تقنياتها من منولوج وتيار وعي ونص شعري، وتحريك الأشياء والأمكنة، وجميع المحافل السردية لا تستجيب لواقع العراق الجديد، الذي هو نتاج عقود من الدكتاتورية المتوحشة، والحروب والاحتلال والدمار الروحي والمادي للإنسان.

يقول الروائي في مراسلة خاصة معي عن روايته “لا تجسّد النهايات المأساوية للأبطال في ذهني انعدام الأمل بعراق جديد ينبثق من جراحه، بل تجسّد الموت الذي ابتلع مئات الآلاف من العراقيين في الحروب الكارثية التي خاضها العراق، وكذلك الاقتتال الداخلي على الهوية الطائفية بعد الاحتلال. لكن للقارئ الحق في أن يقرأ هذه النهايات بوصفها علامات تشير إلى انعدام الأمل بعراق جديد”.

سلمان البدر، الشخصية الرئيسية في الرواية، مشروع كاتب، وأنموذج رمزي للمثقف الذي تغدو لديه الثقافة خيارا مصيريا، ومراد صديقه الذي يتقمص شخصيته، فيما بعد ويروي يومياته من أحلام تتكرر عليه. تبدأ الرواية بموت البدر على الساتر الأمامي أثناء معركة الفاو، خلال حرب الخليج الأولى، وتنتهي بعودته للحياة بعد إصابته بجروح خطيرة في مواجهة له مع الجنود الأميركيين بعد 2003، وإنقاذه من قبل نورهان التي تهبه حياتها بفعل أسطوري. يقول الكاتب عن ذلك “الموت الأسطوري للبطلة نورهان هرمزلي ليحيا من جديد سلمان البدر تأكيد على خصوبة الحياة، وانبعاثها في أسطورة تموز، لكن بالمقلوب، فالمرأة هنا هي المخلّصة والمضحية وباعثة الحياة”.

لكن كيف عاد سلمان للحياة ثانية ليقاتل من جديد الجنود الأميركيين في مكان (له أكثر من رمزية للعراقيين) فـ”كركوكـ – أرابخا” هو المكان المشترك لعيش جميع الطوائف والأديان والقوميات؟

لهذه العودة حكاية، وقد حصلت للآلاف من العراقيين، أي عودتهم للحياة بعد أن سُجّلوا أمواتاً في تلك الحرب، وسواها، ثم اتضح أنهم كانوا في الأسر، وبينهم من فقدوا عقولهم أو ذاكراتهم، وضاعوا بين الناس في مختلف المدن العراقية أو الإيرانية بعد أن أُطلق سراحهم من الأسر، عقب نهاية الحرب مباشرة، والبدر أحد هؤلاء الذين أُطلق سراحهم بعد ربع قرن من الأسر.

الإشكالية النصية للرواية تتسع، ويتسع أفق الاكتشاف فيها، وتصير أكثر تعقيدا بتعدد الأصوات الساردة فيها، كحبيبة البدر نورهان، مراد، صوفيا ابنة نورهان وفادي حبيبها، فرهاد الكردي، هاشم أخو سلمان، باهر الكناني، وألماس خالة نورهان، وهي ضحية لاقتتال الأحزاب في السبعينات، إذ يُعدم حبيبها الشيوعي في العام 1979 من قبل النظام الحاكم.

يقول الكاتب عن الإشكالية النصية في روايته “اخترت قلعة كركوك فضاءً لأحداث كثيرة في الرواية كونها من أبرز المعالم التاريخية للمدينة، وترتبط بهويتها السومرية رداً على محاولات بعض الأطراف إضفاء هوية إثنية مختلقة عليها بدوافع سياسية وشوفينية”.

تاريخ مدينة كركوك كان حاضراً كمحفل سردي رئيسي في الرواية، وأسّس عمقا فكريا وروحيا لها، فحوادث التاريخ التي مرت على المدينة، وأضرحتها ومزاراتها وعادات أهلها، وما وقع على أهلها من ظلم الفرس للمسيحيين فيها في عهد يزدجرد الثاني، وبعدهم ما واجهه الناس طوال التاريخ من الطغاة، أحدهم كان الأمير الأعور، ومجيء الأميركيين بدباباتهم بعد ذلك. وبالرغم من أن الكاتب ركّز على قصة حب رومانسية قتلتها الحروب، فإنها قالت كل شيء عن حياة العراقيين خلال أربعة عقود جمعتهم مدينة كركوك.

رواية “حماقة ماركيز” لعوّاد علي تجربة إبداعية ثرية بلغتها الشعرية وحبكتها المتفردة، ومحافلها السردية المتعددة، وتدفّق مشاعر أبطالها، خصوصا في مشهد لا يُنسى وهو يصف سكرات الموت في شدتها وغمراتها الذاهبة بالعقل، والحلم باسترجاع دفق الحياة لدى بطلته نورهان لحظة موتها “تقرير طبي: استنادا إلى إفادة اثنين من الممرضين في المستشفى الجمهوري بأرابخا، اقتحمت يوم الرابع عشر من شباط/ فبراير 2009 امرأة مختلة العقل تدعى ‘نورهان كمال هرمزلي’، مخزن المواد السامة، وأخذت منه إحدى الزجاجات، وأفرغت المادة القاتلة في جوفها ظناً منها أنها عصير ليمون، وسرعان ما بدأ أثر السم يدبّ في جسدها، وأصبحت أطرافها واهنة كالقطن، وتكسّرت عظامها تحت جلدها، وقفز قلبها من صدرها إلى الأرض وأخذ يذوب كقطعة ثلج، ويتسرب في خيط رفيع إلى صالة العمليات.

وهناك حدث ما يعجز الطب والعلم عن تفسيره: نفذ سائل قلب المرأة إلى صدر جثة رجل مات توّا يدعى ‘سلمان إبراهيم البدر’، كان قد أصيب في مواجهة مع قوات التحالف، فعادت إليه الحياة فورا، رغم أن الأطباء فشلوا في إنقاذه”.

إنها رواية مشوّقة جداً في أحداثها وشخصيّاتها وأسلوبها وتقنياتها، وتُعدّ إحدى أهم الروايات التي تمثّلت سردياً لأربعة عقود من نضال العراقيين في الدفاع عن وطنهم، والحلم بتحقيق حياة سعيدة للناس، الذين عانوا طويلاً من وحشية الحروب وحماقات الحاكمين.

كاتب من العراق

فيصل عبدالحسن

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم