في رواية 'لعبة المغزل' تتداخل الحكايات ليجد القارئ نفسه في متاهة من الحكايات التي نقرأها في كلّ مرّة من وجهة نظر مؤلفها.

كل حكاية أو سرد لواقع ما، هما انزياح عن الحقيقة، وكلما كثرت الحكايات عن حدث ما، تورّط الخيال أكثر في صياغة حقيقة هذا الحدث، إلى حد اختفاء ما هو حقيقي، لتنتصر الحكاية في النهاية على الواقع، فما نعرفه من تاريخ وسرديات وشخوص هي بالنهاية حكايات، سواء كانت مدوّنة فنيا في رواية أو بصفة رسمية ضمن وثائق، فنحن كبشر إيماننا مبني على حكايات، لا على أحداث. تدعونا رواية “لعبة المغزل” للكاتب الأريتري حجي جابر، إلى التشكيك في التاريخ وشخوصه، ثم في الرواية نفسها، التي تنهار عمارتها في الصفحة الأخيرة، ما يدفعنا إلى إعادة قراءتها من منطلق كامل الاختلاف.

تتسرب الحكاية من أيدينا ونحن نقرأ الرواية، فهي مقسمة إلى عشرة شرائط، الأول في عكس موقعه ضمن الرواية يحمل عنوان “الشريط الأخير”، إلى جانب فصل في النهاية بعنوان “كنز الطبيب”، الفصلان الأول والأخير يشكلان أساس اللعبة السردية، فالبداية التي تحوي محاولة الاغتيال الفاشلة، نراها تعود في الفصل الأخير، لتمنح معنى جديدا لهذا الاغتيال الفاشل، الذي قد يدفعنا إلى إعادة قراءة الراوية من وجهة نظر مغايرة.

الهوس بالحكايات

نقرأ في “لعبة المغزل”، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، قصة رسامة فاتنة، تعيش حياة مملة، تحصل على وظيفة في “دائرة الأرشيف”، بوصفها مسؤولة عن إدخال وثائق الدولة أثناء الثورة في أريتريا إلى الكمبيوتر. هذه الرسامة مهووسة بالحكايات، وخاصة تلك التي ترويها لها جدتها التي عايشت الثورة والاستقلال في أريتريا، تُصاب الفتاة بعدوى الحكاية من جدتها، وتجد فرصتها الذهبية في الوثائق التي بين يديها في العمل، بوصفها تتناول حياة الجنود والثوار، إلا أن ما يثير اهتمامها بشدة، هو تلك الوثائق ذات الأربطة الحمراء، الأكثر سريّة، والتي تحكي عن الرئيس ويومياته.

شغف الرسامة بالحكايات يحملها على تعديل محتوى الوثائق قبل إدخالها إلى الكمبيوتر، فتضيف من مخيّلتها ما يُكسب الشخصيات ألقا وإثارة، إلا أن شغفها يتزايد، فتستخدم سحرها وجاذبيتها للتلاعب بمديرها للوصول إلى وثائق الرئيس، التي تقوم أيضا بتعديلها، وتعديل قصة عشقه لإحدى المقاتلات، إذ تحوّلها لانتهازية دميمة، بسبب غيرتها منها وعشقها للرئيس.

خيانة الحقيقة

تتورط الرسامة أكثر فأكثر في تغيير الوثائق والحكايات، لكنها تكتشف لاحقا أن الرئيس أيضا يقوم بالتعديل ثانية، فالصورة المثالية التي يرسمها عن نفسه هي محض كذب، والصورة التي رسمتها له في خيالها وعلى اللوحة في غرفتها لا تمثل الواقع، فهو يعدل الوثائق ليغير صورته من متوحش إلى ملاك نقيّ، مخفيا حادثة اغتصابه للمقاتلة الحسناء التي هاجمتها الرسامة في حكاياتها/ تعديلاتها، كذلك حقيقة ابنته منها التي تخلى عنها، في النهاية إذ تكتشف الرسامة وهي تنهار بين يدي جدتها، أنها ابنة الرئيس من المقاتلة التي اغتصبها، إلى جانب انتهازية الرئيس وبطشه.

تتداعى صورة الرئيس/ المعشوق، ليتحول إلى أب بغيض، فتضيع الحقيقة، ويُطرح أمامنا سؤال؛ من يقوم أيضا بالتعديل؟ من يغير الوثائق أيضا؟ فمن كان رئيسا وعشيقا وساحرا متخيّلا، تحوّل إلى أب واقعي بغيض.

نسيج من القصص

“الشرائط العشرة” التي تحكي قصة الفتاة، نقرأ من خلالها حكايات فرعيّة، أحداثها في الماضي، في زمن الثورة، والتي تخضع أيضا لتعديلات الرسامة، إلى جانب قصة واقعية، هي علاقة الرسامة المتوترة مع طبيب قبيح، وقع في حبائلها، وهي تتسلى بتعذيبه، بل وتهين قبحه، وتستفزه بقولها إن له صوتا جميلا فقط.

العلاقة المتوترة بين الرسامة والطبيب تصل إلى حدّ تبادلهما أشرطة مسجلة، يحكي عبرها كل واحد منهما حكايته مع الآخر، لنرى مقارعة بين الجمال والقبح، لينتهي الأمر بينهما بحقيقة أن كلا المفهومين عبارة عن أقنعة، وهذا ما يتضح عند اكتشافها حقيقة والدها/ الرئيس، حيث تُدرك مدى نُبل الطبيب، الذي لم يكذب تجاه قبحه، بل تقبله بوصفه حقيقة، وليس كالرئيس المتخيّل بجماله، وهو القبيح والمتوحش على أرض الواقع، فالمتخيّل خان الفتاة، وكماله يثير الجدل، وليس حقيقيا، بعكس الواقع المليء بالعيوب.

انهيار الحقيقة

بعد انتهاء فصل “الأشرطة” نقرأ “كنز الطبيب”، الذي نرى فيه الطبيب يتجه نحو الاستخبارات بوصفه يحمل معلومات خطيرة، إذ يحكي لها أنه كان يعالج في المشفى فتاة معاقة وقبيحة، تعرضت لحادث ما، ويصرّح بظنه أنها قد تكون على علاقة بالتنظيمات الإرهابيّة، كما أن لها علاقة غريبة مع امرأة عجوز تحكي لها قصصا متنوعة، ويضيف أن الفتاة المعاقة تمتلك معلومات سرية عن الرئيس وحياته، وأنه قام بتفريغ الأشرطة التي سجلها معها بصيغة المتكلم على لسان الفتاة، لتتضح هنا محاولة الاغتيال في الفصل الأول، هل فعلا كانت الرسامة تحاول اغتيال والدها/ الرئيس؟ هل حقيقة أرداها حرّاسه قتيلة؟

البنيان السردي الذي تشكله الأشرطة العشرة ينهار في الفصل الأخير، ليتحول ما قرأناه إلى هلوسات، أو مجرد نذالة من الطبيب واحتمال تعديله لما حصل، والـرواية هنا تدعونا إلى التشكيك في كل مـا قـرأنـاه واقعا كان أم خيالا، وهذا ينسحب على التاريخ الذي نقرأه خارج الرواية، هل من الممكن أن يتسلل إليه الخيال أو الكذب؟ فالفتاة عدّلت ما قرأته بسبب الملل، لينتهي الأمر باكتشافها للحقيقة عبر الخيال، أما الطبيب فقد أعاد روايـة كـل شيء ليجمّل صورته، فأين الضحية هنـا؛ التـاريخ أم من يقرأه؟

في لعبة المغزل تتداخل الحكايات، فالتاريخي والمتخيّل يضيعان، لنجد أنفسنا في متاهة من الحكايات التي نقرأها في كلّ مرّة من وجهة نظر مؤلفها، بل حتى المؤلف نفسه يضيع صوته فيها، وكأن هناك حكايات أخرى لم تُروَ بعدُ، فالرواية تدعونا إلى التشكيك في التاريخ وتدوينه بأريتريا، وأيضا في شخصياته المقدسة بوصفها قد لا تكون بالطهرانية والجمال اللذين نتخيلهما لديها، لنتورط في الحكاية وتخيّلها فيضيع الواقع، هل من يكتبون التاريخ مجانين أم عقلاء؟ هل المصالح الشخصية والرغبات الفردية تختفي من المعادلة أثناء تدوين التاريخ؟ الجواب لا؛ التاريخ هو حكاية لا يكتبها المنتصر فقط، بل الخائف كذلك، هو تخيّل لما حدث قصد جعله مثاليا وطهرانيا، لا يُشبه تشوّهاته في الواقع ولا شخوصه.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم