السويد هذا البلد البعيد المغطى بالثلج، يبدو هادئاً، مطمئناً، غارقاً في سلامه وانحيازاته للإنسان وحقوقه، ستصلنا منه حكاية أخرى، كوزموبوليتانية الأبعاد، على الرغم من شدة خصوصيتها. «أصدقاء الحيوان» رواية للكاتب أنطون ماركلوند، عن مراهق مصاب بالتوحد، يحكيها ثلاثة رواة، يوحنا الصبي، والأب لينارت، والأم مونا. تتسلم الأم زمام السرد بشكل أساسي، لكن المرارة والشك ترشحان من كل حرف تقوله. فالأنثى هنا ليست أنثى المساومات والخضوع، هي أنثى الأسئلة والمحاكمات، فهي تحمل في هذا العمل عبء الكآبة، والانهيارات العصبية، مونا الأم لم تأخذ وضع ابنها «المتوحّد» كعقوبة إلهية يجب قبولها، فيقهرها مدى الخنوع الذي تعامل به الأب مع تلك الكارثة التي أصابت ابنهما، وما بين القبول وعدمه ينطلق كل صراع في العمل، فالأم تريد من الابن أن يتحسّن، من الحياة أن تتحسّن، من المعاناة أن تقلّ، وعندما لا يحصل كل هذا، تجد أن حياتها تتكسر على بعضها في انهيارات لا يمكن إيقافها. في رواية الصخب والعنف، اختار وليام فوكنر أن يروي حكايته، ثلاث شخصيات عاشت الحدث ذاته، فتحكي كل شخصية منهن ما رأت بلسانها ووعيها، بلغتها وحتى بأخطائها الإملائية، سينسرب هذا التكنيك كالماء في أعمال روائيين كثر، ليصل بعد سنوات إلى بلد لا شمس لديها، فقط موات وثبات الثلج، بلد يعرف الله، مع أنه مملوء بالشك، بلد أشهر ما فيه، هو شركة تصنع المفروشات اسمها إيكيا، وتذكر لأهميتها في الروايات، إذاً سيصل هذا التكنيك إلى السويد، وسيختار أنطون ماركلوند، ما فعله روائيون آخرون وسيحكي حكايته ثلاثة أشخاص. خيار سردي «أصدقاء الحيوان» كتبت في البدء كقصة قصيرة، وعندما لفتت النظر بموضوعها وأسلوبها، قرر الروائي بقرار شجاع تحويلها إلى رواية، يبدو هذا الخيار السردي القافز بين الأمزجة الكتابية، خياراً متهوراً، وبحاجة لمهارة هائلة للتنقل بين الأجناس الفنية، لكنه في رواية «أصدقاء الحيوان» يبدو متسقاً تماماً، دون ثرثرات، ونشعر مع تقدم الحدث، وتشابك الحبكة، بمدى دقة وإتقان الكاتب لشروط كتابة رواية ممتازة. في الرواية أسئلة وجودية، وهيمنة لسلطة ما غير مرئية، هناك ثقل وغمّ خفيان، وهناك ما هو قدري وعبثي، مع كل حدث يتعاقب، نشعر بأن كل ما في الحياة، هي سلسلة من أحداث تقود إلى أخرى، وأن لا صدفة، بل خيارات لأناس يجب أن تكون واعية، لأنها ستؤدي إلى خيارات أخرى،، وأنّ كل فعل نقوم به الآن، سيرسم حياتنا وحيوات أبنائنا في السنوات المقبلة إلى ما لا نهاية. في الحكاية إشارات، وتتبع لضوء الكارما المعلق فوق الرؤوس كهالات نور، هناك إشارات في صور الفوتوغراف التي يلتقطها الجدّ، ويورّثها لحفيده المتوحّد، هناك سياقات لأفلام تؤلفها الأم بموسيقاها بحواراتها، بكادراتها التامة وألوانها وروائحها، كأنها تشوّف لما يحصل، فتتخيل الأم ما يحصل مع الصبي، ابنها عندما تغادره وتتركه لحياته خارج حمايتها، وحبها، وتفهمها وضعه، عندما تضع الأم قلبها في جليد السويد، وتترك ابنها ليقابل عالماً لن يقدّر الاختلاف، ولن يفهم حالة الابن، ومع هذا ترسله أمه لمصيره، كأنها ترسل خروفاً للذبح، يذهب يوحنا إلى المدرسة، ليتآلف، ليتعود ويتلاءم، ليشعر أنه أفضل، ليشعر أنه طبيعي، وهو ليس كذلك ولن يصير أبداً. ومع هذا يحاول الصبي أن يرضي أقرانه، فيشاغب، وينتهك الممتلكات العامة، ويضع دوداً في الخبز ليأكله أطفال المدرسة، ويقذف كرة ثلج عملاقة مسقّاة بالبول على المدير اللطيف، يوحنا سيتعلّم من الآخرين الدروس عن التأقلم، سيتقن الدرس الأشد أهمية والأشد كارثية، الذي سيدغم حياته بلطخة لن تمحى عن قماشة عمره، كله يحصل عندما يرى والديه وهم ينهون حياة ثعلب أصابوه في حادث سيارة، وكسروا قوائمه، ولأنهم لم يستطيعوا إنقاذه، فإنهم يقررون قتله بالحجارة، كي ينهوا ألمه! الابن ينسخ ما يراه بحرفيته، كفعل قتل لا ينتهي، فعندما يهاجم هو ورفاقه امرأة عجوزاً ويسرقون مالها، تسقط المرأة أمامهم على الثلج، فيحمل يوحنا كأنها الحجارة ذاتها التي قتل بها والده الثعلب، ويهوي بها على رأس العجوز، كي يريحها من الألم! مع ان انشغال الرواية يبدو كأنه انشغال محدود ذو موضوع صغير، لكنه انشغال عميق، حول المسؤولية، وحول القدر والله، بحيث ترشح أفكار نيتشه عن القوة والضعف، عن الكمال الجسدي، واختصار الألم بالتخلي، أو بالقتل الحميد، عبر تجنيبه لا للذي يعاني، بل للذي يشاهد ويرى ويتعامل مع صاحب الألم، كأنما هو الضحية. أصدقاء الحيوان رواية مؤثرة، ذكية وشفافة، تروى في أجواء آسرة من العزلة.

(]) صدرت الرواية عن دار ممدوح عدوان وترجمها عن اللغة السويدية حميد كشكولي.

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-03-10 على الصفحة رقم 12 – ثقافة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم