بعد قراءات عدة لـ"مخمل" للروائية حزامة حبايب، أعتبرها رواية مركبة ومبنية بناءً يحتاج إلى تفكيك دقيق، ومبدئيا يمكن القول إن الرواية تقوم على ثنائيّة الهويّة، ما يعكس شخصية "بطلة" الرواية، فهي فلسطينية لاجئة ومن سكّان مخيّم البقعة، وهي ثانيا المرأة/ الأنثى. ما يجعلها تتعرض لنوعين من المعاناة. إذ تغوص الرواية في فلسطينيّة "حوّا"، كما تنخرط في ثنائية أنوثة/ ذكورة.

لنبتعد عن معالجة هذه الازدواجية في الطرح، وننتقل إلى قراءة مكثفة لجانب واحد من جوانب حياة البطلة/ الرواية، هو المتجسّد في أنثويّتها، من دون أن يعني ذلك أن الرواية مدموغة بدمغة "النِّسْويّة"، في المعنى السائد لهذا المفهوم. وما يعنينا في هذه القراءة، هو بناء شخصية "حوّا" وسط عناصر الرواية، شخوصها وحوادثها ورسائلها، والمناخ العام للرواية، وهو مناخ يتضمّن مكوّنات المخيّم الفلسطيني عموما، والمخيم في الأردن خصوصا، حيث يرتبط المخيم بالبيئة الأردنية أيضا، يتأثر بها على نحو ما، بل تحضر هنا شخصيّات أردنية، حتّى إن ثمّة حضورا لجهاز الأمن "المخابرات"، ومشاهد من حرب أيلول الأسود الدمويّة بين المقاومة الفلسطينية والجيش/ النظام الأردني، كما ستحضر أنْوية "قوى الظلام" التي ستتخذ في ما بعد طابعا إرهابيا، من خلال شخصيّات أردنية واقعية معروفة.

سيرة "بطلة/ أنثى" يتمثّل الطابع "الأنثويّ" للرواية أوّلا، باختيار "المخمل" عنوانا لها، وللمخمل هنا سمات ومواصفات ودلالات، له صوت ورائحة وألوان، وقبل ذلك له ملمس مختلف عن أنواع الأقمشة كافّة، وحزامة تضعنا في صورة أدقّ التفاصيل ضمن هذا الإطار، حتّى لكأنّها إحدى العاملات في المجال. ويتمثل المظهر الثاني للأنوثة هنا في اختيار أثاث المنزل، في ما يتعلق بشخصية "الستّ قمر"، إحدى أبرز شخصيّات الرواية، والمعلّمة و"صانعة الموضة.." التي على يديها تنضج تجربة حوّا- الخيّاطة وشخصيّتها كإنسانة (ربّما ليس صدفة أنها من أصول شاميّة)، فالكاتبة تقدّم أوصافا تفصيلية تؤشر على معرفة عميقة بعالم الأنوثة وعلاماتها.

زمنيّا، تمتد الرواية ما يقارب خمسين عاما، منذ طفولة "حوّا"، حتى بلوغها السابعة والأربعين من عمرها وتحوّلات شخصيّتها، فترة تشهد تحوّل "حوّا" من الطفلة إلى الأمّ ثم الجدّة. وأكثر ما يعنينا منها مرحلتا الطفولة والأمومة، قبل الوصول إلى الخاتمة التي تشهد النهاية المأسويّة لها. نهاية سنقوم بربطها بمرحلة الطفولة، لإبراز جوهر "قضيّتها"، قضيّة القتل على خلفية "الشرف".

نتابع شخصية "حوّا" من زوايا مختلفة، مع تركيز على حضورها في وسط ذكوريّ و"قاتل"، حوّا التي "تحفظ أزقّة مخيّم البقعة"، والطفلة في الثامنة وتبدو أكبر حجما من سنّها، ثم حوّا في سن الحادية عشرة وقد كانت تبدو "امرأة ناهضة"، "تشيل" شغل البيت، تجوب الأزقة الضيّقة، وتتجنب الأضيق التي "تترنح فيها روائح التعب والقهر و..".

يتجسّد الحضور الذكوريّ الثقيل المحيط بـ"حوّا"، في شخصيّات عدّة، أوّلها الأب موسى، وترسمه الكاتبة بخطوط كاريكاتورية تجمع القوّة والحزم في علاقته مع زوجته وأولاده وبناته من جهة، والضعف والهزال أمام والدته "نايفة" القوية من جهة ثانية. الحضور الثقيل يبدو في وصف لحظات خروجه من المنزل، فقد كانوا "يحتاجون إلى وقت قبل أن يستوعبوا أنه غادر أخيرا"، و"حين يبتلعه الطريق، يدبّ عيش آخر في البيت، عيش أكثر احتمالا". والأثقل عبئا على روح "حوّا" هو شذوذ الأب، وممارسته الجنس معها ومع أختَيها عفاف وساجدة، وعلى نحو عنيف.

في هذا المحيط أيضا، تتجسّد الذكوريّة في مدى حرص المجتمع على إخفاء مظاهر "أنوثة" المرأة، منذ الطفولة، بدءا من عدم البوح بالدخول في "الدورة الشهرية"، ومحاولة الأم "رابعة" إخفاء ثديي "حوّاء" بقدر من "العنف"، حيث فعل الكبت الأول "قصّتْ قماشة طولها متران وعرضها نصف متر، أحكمت لفّها، كقماط، حول صدرها، حتى كادت تسطّحه تماما. قالت لها حوّا إنها لا تستطيع أن تتنفّس"، فأخبرتها رابعة أنها تستطيع أن تفكّ القماط حين تنام". ويرتبط هذا "الكبت" بعلاقة مع مجتمع ذكوريّ خارجيّ، يلخّصه ما يجري في الحافلات العامّة من تحرّشات.

"حوّا" بين نارَين تنمو شخصية حوّا بين نارين، والدها وشقيقها عائد، وشقيقات يتعرّصن لبطش الأبّ وعُقَده الجنسية. منذ البداية نقف على العلاقة بينها وبين عائد. نتوقف مع تكوين شخصية عائد، منذ طفولته، للتعرف على المكوّنات الجسدية والنفسية له، نجد حوّا هي التي تهتمّ بشؤونه المرَضيّة كالتبوّل اللاإرادي أثناء النوم، الأمر الذي يعرّضه لسخط الوالد، فتنبري هي لرعايته واحتضانه، ورغم أنها تكبره بثلاث سنوات فقط، "تبدو كأنها أمه"، فقد "كان عائد ضامرا، فأريّ القوام، منكَّس البنية، بهيكل متقوقع وأطراف تميل إلى التحدّب.. ما جعله يبدو كأنه مذعور طوال الوقت..". وإلى ذلك كانت "تحمله حوّا إلى الحمّام، فيستلقي بين ذراعيها كطفل رضيع، يلصق وجهه بصدرها العارم.. ويستشعر سلاما في حضنها"، وأخيرا "بكى عايد يوم تزوجت حوّا.. أدرك أن جسد حوّا الهائل الصلابة لن يكون حاضرا في الصباح.. فيتلقى عنه القسم الأكبر من لسعات القشاط".

هذه الوقفة المطوّلة مع عايد وعلاقته بحوّا، سببها أنه سيكون هو المدبّر والمخطِّط لقتلها لاحقا، وإن كان ابنها قيس هو الأداة التنفيذية للقتل. فبعد اكتشاف علاقتها مع "منير" العاشق والمعشوق، وهي المطلّقة التي عانت الكثير لتصنع من عايد شخصا ناجحا، وظل يفشل، تأتي الطلقة القاتلة من تدبيره. فقد فشل في كل شيء في حياته، وخاض تجارب من العمل خارج الأخلاق والمبادئ، وحتى خروجاً على الدين، إلا أنه نجح في أمر وحيد: تحريض قيس على قتل أمّه حوّا، تحت مسمّى "غسل العار".

وهناك علاقة حوّا بالزّوج (نظمي)، علاقة قامت على العداء والكراهية من البداية، حتى إنها يوم قرّر أن يطلّقها ويتزوج "فريحة"، تبكي حوّا فرحا "لم تبكِ حوّا لأنّ نظمي طلّقها بعد عشرين عاما من اقتِياته على روحها التي صمدت بأعجوبة. بكت حوّا لأن الأشياء الجميلة تأتي متأخرا، بكت لأن نظمي كان يمكن أن يسطو على حياتها عُمْرا أقلّ.. لأن المرارات التي أثخنتْ قلبَها كان يمكن أن تكون أقلّ بكثير".

وأخيرا، نتوقف مع الشخصية غير الذكوريّة للرجل، ممثّلة في العاشق/ المعشوق (منير). وباستثناء علاقات حبّ قليلة عاشتها حوّا في مرحلة المراهقة والشباب، كانت علاقتها مع منير هي علاقة الحبّ الوحيدة الحقيقية والفعلية. ومعه وفي سيارته، مع أغنيات فيروز التي تجيد الكاتبة توظيفها "موعدنا بكرا.. شو تأخّر بكرا"، نرى حوّا معه في المقهى "لا تشبه نفسها.. لا تشبه من كانتها في العقود الماضيات"، ونرى نذير الشؤم/ الموت عبر الريح التي تحمل نصف صفحة جريدة تحمل نعيا تصدّرته عبارة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، منذرة بالموت القريب لـ"حوّا".

في الختام، تجدر الإشارة إلى أنه يمكن اعتبار شخصية حوّا هنا، امتدادًا لشخصية "جهاد" في رواية "قبل أن تنام الملكة"، واستمرارية لها، ففي حين كانت جهاد قادمة من "المخيم" الفلسطيني في الكويت، عائدة إلى مخيم في مدينة الزرقاء الأردنية، نجد حوّا ابنة مخيم البقعة.

ما يعني أننا، ربّما، أمام مشروع من سلسلة روائية متتابعة، لكن مع استقلالية تامّة لكلّ جزء من أجزائها.

(كاتب وشاعر من الأردن) عن صحيفة العربي الجديد

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم