الكاتب السوري إبراهيم الجبين سارَ على طرقٍ وعِرةً ليطرَحَ ملفَّات إشكالية عبر اليوميَّات التي مسَّت الجانب الإجتماعي و الديني و التاريخي على حدٍّ سواء. ليس العنوانُ فقط هو ما يُمكِن التوقُّف عندهُ في رواية إبراهيم الجبين يوميات يهودي من دمشق، فالعنوان و على غرائبيَّتِهِ و جرأتِهِ في بلادٌ يحكُمُها البعث، إلّا أنَّ قصَّةَ إصدار هذه الرواية ربّما تحقق المتعة كما لو أنَّكَ تشاهد فيلماً سينمائيَّاً. القصَّةُ بدأت عندما تم تقديم مخطوط رواية يهودي من دمشق إلى الرقيب في العاصمة السورية حيثُ تمَّت إحالةُ الملفِّ إلى أكثرِ من لجنة لتعذُّرِ اتِّخاذ القرار و ليطلبوا لقاء الكاتب السوريَّ الذي اتَّخذ لنفسِهِ خطَّاً واحداً منذ انطلاقِهِ في عالم الإبداع، الرقابةُ كما قال أعضاؤُها وقعوا في ورطةٍ حقيقيَّة فهُم لا يستطيعون إجازَةَ النص للغتِهِ التي تحمِلُ أكثر من وجه و جرأتِهِ التي كسرَت شعارات البعث الذي يقودُ البلاد و من جهةٍ أخرى لا يقدِرون على منعِهِ لانتفاءِ وجودُ الأسبابِ الموضوعيَّة فاتفقوا على تخريجةٍ ربَّما هي الأولى في حدوثِها على المستوى السوري فكان القرارُ بأن يتمَّ طبعُ الكتاب في العاصمة السوريَّة على أن يتمَّ توزيعُهُ خارجَ البلاد، فالكتابُ مُنِعَ في سوريا على أرض الواقع و قد استطعتُ الحصولَ عليهِ في مطلع العام 2008م من العاصمةِ اللبنانيَّة بيروت حيثُ عبَرَ الحدود رغم قرار الأمنِ بمنعِه ففي تلك البلاد كلُّ شيءٍ ممكن حيثُ أنَّ الكاتب و الإعلامي إبراهيم الجبين خضَعَ لمحاكمةٍ أمام القضاء العسكريّ بسبب هذا الكتاب الذي اتُّهِهَ بأنَّهُ يسعى للتطبيع مع اسرائيل و كأنَّ الذين قرؤوا الكتاب لم ينتبِهوا أن البطل سوريٌّ يدينُ باليهودية.

يهوديٌّ سوريٌّ من دمشق

تبدأ الروايةُ بإقرار شخصي من الكاتب بأنَّ جميعَ الشخصيَّات الواردة في الرواية هي شخصيَّاتٌ حقيقيَّةٌ من لحمٍ و دم، عاشَت و تعيشُ على الأرض السورية، تذوبُ بين مفهومَي الوطن و السلطة لتسبَحَ تارةً في شبكةِ الديكتاتور و نراها أطواراً تسقُطُ في فخِّ الإنتماء الديني بينما برَزَ الراوي الذي حاولَ أن يبقَ بعيداً عبر استهلالِهِ إلَّا أنَّ القارئ فوراً يُدرِكُ ذلك التماهي المطلَق بين الشخصيَّات فإبراهيم الجبين حاضرٌ بشخصِهِ الإنساني عبر أسماءِ مقالاتِهِ و قصائِدِهِ و تجاربِهِ الصحفيَّة فهو يُقدِّم سوريا بصورةِ دمشق الممتدَّة بتاريخِها الطويل و التي احتضَنَت في رحِمِها أقواماً و أدياناً و شعوباً و رايات و كلُّها لم تُغيِّر وجهَها الذي يُشبِهِ وجهَ الأجيال المتعاقِبَةِ عليها، و إن كانت المقولةُ الشعبيَّةُ الدارجةُ في سوريا بأنَّ تحت الشام سبعُ مدن تهدَّمَت فيمَ مضى من تاريخ فإنَّ الكاتب يُبحِر و يغوصُ مقلِّباً في الجيولوجيا ليستنهِضَ دمشقَ الأولى التي كانت للجميع قبلَ أن تسيرَ في ركب القائد الواحد الذي يُشيرُ لهُ و لا يذكُرُه في حديثِ "إخاد" الدمشقي اليهودي الذي أخبرَ الكاتب أنَّهُم يريدون إبعادَهُ عن دمشق، و هذه الـ "هم" ما هيَّ إلا أولئكَ الذين استفردوا بالمدينةِ فصادروها لهم، اليهودي هنا ليسَ واحداً فهو جزءٌ من كُل و في هذا التفصيل يسعى الجبين لتحفيزِ الذاكرةِ الجمعيَّةِ بتقنيَّةِ الكتابةِ للصورة و خصوصاً في حديثِهِ عن الأقفالِ التي تُغلِقُ بيوتَ اليهود بعدَ أن خُلِعَت شبابيكُها، إخاد واحدٌ من عائلةٍ تشظَّت شمالاً و جنوباً و شرقاً و هو لا يُريدُ أن يرحلَ إلى هناك، و هذه الـ "هُناك" يتركُها الكاتبُ مفتوحةً لجميع الإحتمالات التي قد تخطُر للقارئ.

رغمَ امساكِهِ بخبوط اللعبة السردية ضمن النص إلّا أنَّ الكاتب يتركُ المساحةَ الكافيَةَ لكلِّ الشخصيَّات كي تؤدِّي دورها بينما يكونُ هو الناظِمُ الزماني لكل الأحداث عبر سردٍ تاريخي عميق لتلك الجلود التي كسَت جسَدَ مدينة دمشق القديمة بينما نراهُ يبحثُ في اللاهوت و العقائد عبرَ قصصٍ توراتيَّة و اسرائيليّات و قصص من القرآن الكريم و من الإنجيل في معرفةٍ موسوعيَّةٍ تظهرُ بين طيَّات الرواية، تلك القصص التي يمرِّرها الكاتبُ بذكاءٍ و حنكةٍ بتتابعِ أحداثٍ وقعَت بالفعل بينما يبقى الزمنُ عندهُ مفتوحاً على كلِّ الإحتمالات فتارةً هو- أي الزمن- يمرُّ بمقطعٍ عرضي و مرَّات أخرى نجدهُ شاقوليَّاً ينتصبُ في زاويةِ قبوٍ لعائلةٍ دمشقيَّةٍ يهوديَّة ممتداً خمسةَ آلاف عام ماضية، ثم يتركهُ الروائيُّ ساقطاً من علوٍّ تاريخيٍّ إلى زمنٍ حاضر حوصِرَ فيهِ اليهود الشاميُّون في مواجهةٍ صادمَةٍ مع المجتمع و التاريخ و العقد الإجتماعي و السياسي الذي لا يهابُ إبراهيم الجبين من محاكمتِهِ في ظلِّ السلطةِ الاستبداديَّة التي تحكُمُ البلاد بقبضةٍ حديديَّة.

الصدامُ مع الجهاد

يقدِّمُ الجبين خطوطاً عريضةً يُفصِّلُ في نقاطِها خلال عملِهِ الممنوع من النشر داخلَ بلادِه فيطرَح الفصلَ بين الثقافة العربية و الثقافة الإسلاميَّة من خلال تأكيدِهِ على احتواء الثقافة العربيَّةِ على خليطٍ عجيبٍ من الأديانِ التي قدّمَت شعراءَ و كتَّاب و فلاسِفة سواءً في سوريا التي يُمثِّلها بدمشق العاصمة أو في بلدان عربيَّة أخرى كاليمن مثلاً في طرحٍ قدَّمَهُ عن وعيٍ سابق بكل المكوِّنات التي تقومُ عليها الثقافة فقدَّم مقاربات حقيقيَّة تاريخيَّة و معاصرة مُثبِتاً إياها بين حارات دمشق ضمن أزقَّةِ حارة اليهود و الشارع الممتد إلى سوق القشلة الشهير، لا بدَّ هنا أن نعرِّج على تلك المعرفة الدقيقة التي برزت عن العاصمةِ السوريَّة دمشق فهنا لم يتعامل معها الكاتب على انَّها مدينةٌ فقط بل هي امتدادٌ تاريخيٌّ و حضاريٌّ، و هيَ رحمٌ يجمَعُ في طبقاتِهِ و شرايينه كلَّ من يستطِع امداد الحياةَ له، في ابتعادٍ واضحٍ للطرحِ السياسي الذي حرَصَ إبراهيم الجبين على تمريرِهِ بطريقةٍ ذكيَّة عندما تحدَّثَ عن الشيخ "أبو محجن" واصفاً إياهُ بهيئتِهِ و حركاتِهِ و نبرةِ صوتِهِ مقارناً حالتَهُ بين زمنين، الأوَّل حين اتَّخذَ مقرَّاً في مدينة حلب لتدريبِ الشباب المؤمنين بفكرةِ الجهاد و إرسالِهم لتحقيقِ حلُمِ الشهادةِ المقدَّس في دولٍ عدَّة، و الثاني حين عادَ الكاتبُ ليلتقيهِ على سفحِ قاسيون حيثُ شذَّبَ لحيتَهُ و التزَمَ بمرافقين يحرسونه من عناصرجهازِ الأمن السوري، إخفاءُ الإسم الحقيقي لأبي محجن كما تعمَّد إبراهيم الجبين في روايتِهِ لم يكُن عائقاً أمام القرَّاء ليعرفوا أنَّ المقصود هو محمود قول آغاسي الشهير بأبي القعقاع الذي اتَّخذ من الاسم الأخير عنواناً لمشروعِهِ القتالي في سوريا، ذلك الشيخِ الذي وُلِدَ في الشمالِ السوري عام 1973م استطاعَ الجبين تقديمهُ ضمن خلطةِ الرواية الإشكاليَّة بانسيابيَّةٍ مُطلَقة، و هنا لابدَّ أن أعترفَ أنِّي حين التقيتُ أبو القعقاع في عزاءٍ بمنطقةِ الصاخور في حلب السوريَّة قبل اغتيالِهِ بشهرين لم أستطِع أن أُخرِجهُ من تلك الصورة التي قدَّمهُ بها إبراهيم الجبين ضمن يوميات يهودي من دمشق، علماً أنه تعرّض للاغتيال بالرصاص بعد ستة أشهر فقط من صدور الرواية التي فضحت أمره. بعد اصدار اليوميَّات بأكثر من ست سنوات سيعترف الكاتب أنَّ المقصود بشخصيَّة أبي محجن ما هو إلا أبو القعقاع الذي تمَّ اغتيالُهُ في ظروفٍ غامِضة فنقرأ للجبين في العدد المنشور من جريدةِ العرب بتاريخ 24-9-2014 يقول إبراهيم الجبين: "أجريتُ هذه اللقاءات التي ستقرؤون مقاطِعَ منها في هذه الشهادة، قبل سنوات في دمشق و حلب، و نشرتُ أجزاء منها في صحُف و مجلَّات عدَّة، و ضمَّنتُها كتابي (يوميات يهودي من دمشق) في خطٍّ إنساني مجاور يمضي بالتوازي مع خط الحديث عن يهود الشام المحور الرئيس في الكتاب"، و يقول في موضِعٍ آخر من ذات المقالة : "و لم يكن لمن يريد توثيق ظاهرة على هذه الدرجة من الخطورة، في سوريا، من طريقةٍ سوى أن يلتقِط الظواهر و يسبِق في الحديث عنها مستشرفاً ما يمكن أن تقودَ إليهِ بعد سنوات أو يدسُّها بين ثنايا كتاب أدبي مستعملاً اسماً مستعاراً للشخصيَّةِ المثيرة أبو محجن".

الطرحُ الجديد

عندما قرأتُ العملَ لأوَّلِ مرَّةٍ سبقتني المشهديَّةُ السينمائيَّة التي تم سبكُها بطريقةٍ دراميَّة و قد جرى حديثٌ في الوسط الثقافي السوري وقتَها عن قيام أحد المخرِجين السوريين بسرقَةِ خطوطٍ دراميَّةٍ من العمل و تقديمها في فيلم سينمائي قارب يوميات الجبين، مستغلاً منع الرواية، وناسباً النص لنفسه. كل ما أثيرَ من إشكاليَّاتٍ حول هذه الرواية التي كُتِبَت في مُدنٍ عدَّة لم تُغفِل الخطوط العريضةَ التي قدَّمَها الكاتبُ في نقد الخطاب الإجتماعي لصورةِ اليهود و محاكمَةُ العقدُ الكامن في الخفاءِ بين الجميع، و الفرزُ الحاد بين اليهود و الصهاينة دون ذكر الأخيرة و كشفُ الخطاب الديني و تعريَتُهُ و وضعُهُ أمام مواجهةٍ صادمَةٍ مع العقل، هي الخطوط العريضةُ لما يُمكن أن يكون الوجهَ الآخر للروايةِ التي تسيرُ في سراديب مُعتِمة يديرُ اضاءَتَها إبراهيم الجبين بتقنيَّةٍ عالية، و دون انفعالٍ بالطرح، فالحامل الرئيس للقصَّة هو إخاد اليهودي الدمشقي الذي يحبُّ الشامَ و يتَّخذ من ابراهيم صديقاً له ليفتَحَ معهُ أقفالاً صدِئة على أبوابِ بيوت اليهود في حارَتِهِم التاريخيَة، تلكَ الأقفالُ التي وضعَها المجتمَعُ رافضاً جزءاً من مُكوِّناتِهِ بسبب اسرائيل التي لا يردُ ذكرُها أبداً في طيَّات الرواية.

لغةٌ مشغولةٌ بتركيبٍ مذهلٍ بين البساطةِ و العمق، و طرحٌ جديدٌ قدَّمَهُ إبراهيم الجبين في ثنايا يوميات يهودي من دمشق التي تُمسِكُ بأحداثِها واحداً واحداً حتى يتوقَّف الحدثُ مفتوحاً على العدَم في إشارةٍ ذكيَّةٍ أنَّ اليوميات ستظلُّ تُكتَبُ في زمنٍ ما و مكانٍ ما مهما حاولُ المجتمَعُ إلغاء الآخر و مهما استمرَّ الاستبدادُ بالدولة التي منَعَت روايةً تتحدَّثُ عن أحد فئاتِ مكوِّنات المجتمعِ الذي تحكُمُه، لتُقدِّم صورةً جديدةً عن اليهوديِّ في الأدب العربي لم يتم تقديمها من قَبل و لتكون موضوعاً لأطروحات أكاديمية في مؤسَّساتٍ عديدة ولتحتلَّ عن جدارةٍ مساحةً كبيرةً في دراسة الأدب بقسم الشرق أوسطيَّات في جامعة لايبزغ الألمانية وغيرها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم