الروايات التي تكون داخل رواية لا تهدف إلى تشتيت انتباه القارئ بقدر ما تسعى إلى الدخول به إلى أكثر من عالم ممكن، وهذا ما ترسخه رواية «حوّادم» التي تنتقل بنا بين عالم البداية والنهاية والجنان والجحيم بسلاسة نادرة.

قبل أن يتساءل قارئ رواية «حوّادم» عن معنى هذا العنوان، تسعفه مؤلفة الرواية، الكاتبة السورية بهيجة مصري إدلبي بإيضاح أن «حوّادم» في حساب الحروف؛ حواء + آدم = الإنسان الكامل. ولكن القارئ سيتعب ويستمتع بفتنة السرد في رحلة أسطورية، متقصيا جوانب من شقاء هذا «الإنسان الكامل» أو نصف الإنسان في بحثه عن نصفه الآخر، لكي يتحد به في اكتمال يرتهن به شرط الوجود الإنساني، والتنعم بالفردوس الأرضي، عبر مسارات تتوازى وتتقاطع متخفية وراء ألعاب سردية مراوغة، تكسر إيهام البناء التقليدي للرواية. لن يجد قارئ رواية «حوّادم» الصادرة مؤخرا ضمن سلسلة «روايات الهلال» في القاهرة، خطا حكائيا يؤدي إلى آخر، أو عقدة يسعى إلى فك شفرتها، وإنما الغاية هي التماهي مع روح العالم، روح رواية يتناغم فيها الشعر مع الفلسفة والتاريخ، في نسغ فني، لتأسيس أسطورة يصبح القارئ طرفا فيها، حين يواجه ذاته بما يشبه حقيقة تلخصها منذ الأزل ثنائية؛ الدماء والفردوس.

لا تحدد الكاتبة زمنا ولا مكانا لأحداث الرواية، قدر عنايتها بالتجريد الفني، واكتناه الجوهر الإنساني، بعد كشف قشرة اليقين عن حالات من الشك، إذ «تربكني حيرتي في الوجود، كما يربكني وجودي في الحيرة»، كما جاء في ختام مخطوطة، داخل الرواية، لكاتب غير مشهور اسمه عارف مصطفى نسيم الطيار عاش بين عامي 1650 و1720 ميلادي.

مخطوطة «حوّادم» هي رواية داخل رواية بطلتها وجد عبدالقادر الباحثة في معهد التراث بجامعة حلب، وقد ورثت القلق المعرفي عن أبيها، كما ورثت مكتبته بعد تنازل إخوتها عن البيت، وبدأت سياحتها مع غرفة مكتبة الأب، واكتشفت أنه ملأ هوامش الكتب بتعليقات وتأملات تستحق القراءة والنشر، ولكن تعرضها لعثرات شخصية انتهت بالطلاق شغلتها إلّا عن مخطوطة «حوّادم» لعارف الطيار، وهو من فلاسفة عصره، وإن خلت الإنترنت من ذكر أي شيء عنه، أو عن مخطوطته ذات العنوان الغريب.

كانت وجد عبدالقادر تبحث عن شيء من الطمأنينة بعد ارتباك حياتها، فوجدت نفسها أمام وعد جديد بالحيرة طوال تحقيقها مخطوطة «حوّادم». تختفي المسافة الزمنية والنفسية بين عارف الطيار كاتب المخطوطة، ووجد بطلة الرواية التي تحقق المخطوطة. تشعر وجد بأن عارف مرآة روحها، قرين حيرتها الوجودية، ذاتها الأخرى التي تردها إلى رحلة الإنسان الأول في تيه الكون الفسيح، منذ كان فردا وحيدا، أعزل حتى من اللغة، يجهل أسرار الكون، ولا يعرف ذاته، فهناك رجل يميل إلى إطلاق ترنيمة كونية غامضة لا يعرف لها اسما، ربما تكون الأنثى، ويرفع صوته بالغناء فلا يسمع إلا صداه، وعلى البعد توجد امرأة تسمع خطاه فوق الماء، وتبلغها ظلال أنسه، وأصداء غنائه، هنا يبدأ الحنين، ومنح المعنى اسما.

تتشكل ملامح الفردوس باللقاء والمعرفة والاكتمال، ثم بالبناء، لكن مع قدوم بنين وحفدة، تنطوي نفوس البعض منهم على طاقات من الشر، فيفسدون نعيما حلم به جيل المؤسسين، وتمر أحقاب ودهور؛ دهر الغوايات، دهر الطوفان، دهر الأمان، دهر الدماء، دهر الدمار، دهر الندم، دهر النهايات وفيه كل شيء يدل على الخاتمة، يشير إلى كارثة باتساع الجحيم، قوس أخير يغلق الأفق والأحلام على اللاشيء.

تنتهي مخطوطة «حوّادم»، ثم يضع عارف الطيار بعض تأملاته الصوفية «الموت حياة فائضة بالألم… الوجود أعمى، والإنسان هو حدقته المبصرة، والوجود جسد سوى أعضاء وجوارح والإنسان هو روحه المدبرة»، ولكنه لا يكتب شيئا يمنح يقينا لبطلة الرواية وجد عبدالقادر.

تختتم وجد قراءة مخطوطة «حوّادم»، وتأملات كاتبها عارف الطيار، وتطوي الأوراق، وتغرق في وحشة وغربة وصمت تعجز الكلمات عن الإحاطة بأسبابه. هل تتحقق نبوءة الجحيم الواردة في الألواح بما يجري حولها في حلب؟ وجد لم تطرح هذا السؤال، ولكن القارئ يستدعيه بإلحاح، إذ يتابع وجد.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم