'الموت عمل شاق' رحلة روائية عبر مشهديات الحرائق
تعيش سوريا منذ سنوات على وقع حروب طائفية دمرتها وخربت مدنها وأتلفت حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، وفي كل لحظة نرى صور التفتّت والدمار المتوزعة بدورها على مختلف الأمكنة، فلا يكاد الخراب يترك مكانا إلا وتراه يعشش فيه، ذاك الخراب الذي ابتدأ بنفوس البشر، وتفجّر خلال الحرب ليودي بالأماكن، ومعالم المدن، وتاريخها، وقد حوّلها إلى مستنقعات احتراب وموت وجنون.
ينقل الكاتب السوري خالد خليفة في روايته “الموت عمل شاق”، مشهديات الحرائق المتناثرة على تراب البلاد، كما يتّخذ من رحلة نقل الجثمان ذريعة لتصوير واقع الجغرافيا السورية التي غيرتها الحرب، وقطّعت أوصالها، بحيث أنّ كلّ منطقة باتت تابعة لإحدى الجماعات المتحاربة، تفرض عليها سلطتها، وتجبي الأتاوات من الناس، ناهيك عن الاقتتال المتجدد، واجتياح وجوه أجنبية للبلاد، ومحاولتها التلاعب بالناس، والتعامل معهم كقوة احتلال غاصبة، بعيدة عن أيّ مراعاة لإنسانية الإنسان، أو حرمة الموت.
واقع الحرب
يشير خليفة في روايته الصادرة عن “نوفل هاشيت أنطوان” ببيروت، إلى أنّ الإنسان حين يموت يتحوّل إلى عبء على الأحياء في واقع الحرب، وكيف أنّ مراسم العزاء انحسرت وأصبحت مقتصرة على بعض الأهل، وتغيّرت عادات الناس في التعزية والمواساة، وبات الموت المعمّم أمرا متكرّرا بإيلام في الحياة السوريّة، بحيث أنّ نبأ موت أحدهم ميتة طبيعيّة يكاد يفقد اعتباره، وذلك لكثرة القتل ومجانيته وطريقته الجماعية.
تكون وصية الأستاذ عبداللطيف بدفنه في قريته العنابية التي تبعد عن دمشق حوالي أربعمئة كيلومتر شرارة انطلاق أحداث الرواية، إذ أنّ العجوز الذي كان يقيم في إحدى المناطق المحاصرة والمحيطة بالعاصمة بدمشق، كان قد استعاد أمله في الحياة والواقع بعد الثورة، وانخرط في التظاهرات المناهضة للنظام، وشعر بامتلاء حياته وأنّ أحلامه بالتخلّص من الظلم باتت قريبة التحقّق.
يبدأ العمل من أجل التحضير لنقل الجثمان من العاصمة إلى القرية، ولا يلبث التعقيد في الإجراءات أن يتجدّد ويتعاظم رويدا رويدا، فدوائر المحن تتّسع تباعا، فلا يكاد بلبل يعثر على سيارة أجرة ليخبر أخاه حسين بوفاة أبيه، وقراره بتحقيق وصيته، حتّى تظهر المشاكل التالية، تلك المتعلقة بالإجراءات الرسمية، وأوراق التخريج من المشفى ووصولا إلى لحظة الانطلاق نحو القرية.
كما يشير إلى أنّ جثّة الميت أصبحت بمثابة العدسة التي كشفت مزيدا من الدمار، ولا سيما ذاك الذي اجتاح الأرواح، فمسألة نقل جثمان في الحرب لدفنه، تصبح هامشية وثانوية في الوقت الذي تكون الطرقات ممتلئة بالعشرات من الجثث مجهولة الهوية، تلك التي تبقى في العراء، نهبا للديدان والحيوانات، وبرغم ذلك يكون الحرص على الوصول إلى القرية ودفن الميت فيها، ويكون القبر المفترَض حلما يدخل طور الاستحالة مع ازدياد الأعباء والمشقّات.
يرمز خليفة إلى قوة الحياة في مواجهة استرخاص الروح البشريّة في الحرب، وكيف أنّ العناصر على الحواجز التي تقطع المدن عن بعضها، والأحياء ضمن المدن أيضا عن بعضها بعضا، تتلاعب بالناس، وتطالبهم برشاوى تحت مسمّيات رسم العبور، وواقع تفتّت بنية النظام وتشظّيه إلى مجموعات تتبع بالولاء للخارج، وتكون عابرة للحدود، يسمها الجانب المذهبي والطائفي، وترفع شعارات لا تنتمي إلى الوطنية والعصر الحديث بأيّ صلة.
صور الموت
يرصد صاحب “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” مشقّة الانتقال والعبور من حاجز لآخر، ومن مدينة لأخرى، واختلاف أمزجة عناصر الحواجز وأهوائهم، وتعاملهم بفوقيّة واحتقار مع الناس، واضطرار أبطال روايته مسايرة تلك الحالات، والمداهنة للحظوة بالعبور، وكيف أنّ رغبة كانت تستبدّ بهم أحيانا لو أنّ والدهم المسجّى في الحافلة الصغيرة كان بضاعة ليتمّ تسهيل العبور لهم، ودون أن يطالبهم أحد بأوراق الوفاة، ولا سيّما أنّ الراحل يكون مطلوبا لأكثر من فرع أمنيّ.
يرمز خليفة إلى أنّ الموت، برغم أنّه قد يحمل كثيرا من المشقّة للأحياء، إلّا أنّه قد يصبح عاملا في استعادة المرء لشخصيّته، وقد يكون سببا مهمّا في استعادة الشخصيّات لحضورها الرمزيّ في الذاكرة، بالتزامن مع الامتهان الذي تتعرّض له، إلا أن التشبث بالوصية، والسعي للوصول إلى الغاية ودفن الميت في مقبرة القرية، يفسح المجال أمام الشخصيّات لإعادة اكتشاف ذاتها ومحيطها وأهلها وبلدها، ويدفعها لاتّخاذ قرارات مفصليّة هامّة بالنسبة إليها.
بلبل الذي كان يقيم في حارة من الموالين للنظام، أولئك الذين كانوا برغم أوضاعهم المزرية مستميتين في الدفاع عن نظام أفقرهم وأذلّهم كما أفقر غيرهم وأذلّهم، يستعيد اسمه المسلوب منه؛ نبيل، وكأنّه انسلخ عن شخصيّته الاستسلامية الانتهازية المهادنة، يحاول فرض وجوده على نفسه أوّلا قبل غيره، ويراجع شريط الذاكرة وكيف أنّ الدافع الطائفيّ يظلّ بغيضا، بحيث كانت تكثر دعوات الفتك بالأعداء الذين كانوا إخوة بالأمس، والهتاف بضرورة مسح مدن برمّتها، وغيرها من أقاويل بائسة، تعكس الخواء والحقد المتعاظمين في النفوس المدمّرة.
يلفت خليفة إلى أن جثة الميت التي تتحلل، تتفسّخ، تتعفّن، تفوح منها رائحة كريهة، ترمز إلى حالة البلد بذاتها، وبخاصّة أن الرحلة التي استغرقت بضعة أيّام تكفّلت بإخراج المشاعر الدفينة بالموازاة مع الأحقاد الخفيّة، على خلفية أزيز الرصاص وقصف الطائرات ولعلعة البارود.
يعيد خليفة في عمله جمع حكايات متناثرة وسردها في قالب التداعيات والاسترجاعات، بحيث يبرز لقطات من كل مدينة يمرر بها الجثة التي ينقل من خلالها مشاهد على هامش المجزرة الكبرى المقترفة في سوريا من قبل النظام وأشباهه من المتطرفين.
على الصعيد الفني، لم يضف خليفة أيّ تجديد أو إضافة في عمله على أعماله السابقة، إذ ظلّ الراوي العليم بالنسبة إليه هو المعتمد، هو الطاغي والمتحكّم بخيوط السرد، التقريري والتسجيليّ في عدد من المقاطع والمشاهد، وكذلك طريقة تقسيم الرواية إلى فصول طويلة ظلت نفسها، وكأنّها جزء مكمّل لرواياته السابقة، فضلا عن استعادته وتكراره لبعض المواقف والحالات، من ذلك مثلا حالة البُكم التي تصيب الابنة التي تشاهد الديدان تجتاح جثّة والدها وتخرج منها لتغزو السيّارة، وتغطّيها أيضا وتكاد تلتهمها، وهي لا تؤتي أيّ حركة وفقدت صوتها أمام تلك الهجمة القاسية. وتذكّر هذه اللقطة بلقطة واردة في روايته “مديح الكراهية”، حيث “تهامة” فتاة أصيبت بالبكم بعدما حملت جثث إخوتها الثلاثة، ودفنتهم على ضفاف نهر العاصي، بعدما كانت قضت ليلتين برفقتها. وكأنّ البطلة هنا صورة بنسخة أخرى لتهامة نفسها.
كما يعتمد خليفة على ذكر بعض المدن والمناطق والبلدات بحروف أولى كـ“س”، “ص”، من دون وجود أيّ مبرّر فنّيّ لذلك، ولا سيّما أنّه يذكر مدن كثيرة باسمها كدمشق، حمص، حلب، الرقة، ويكون السؤال عن مدى الحاجة لهذا التلغيم أو الترميز في ظلّ الإعلان عن أسماء صريحة لعدّة أمكنة، وهل ذلك لتجنب الإشارة إلى أماكن تمركز بعض الطوائف في مدن كبرى، أو على هوامشها؟
هيثم حسين
عن صحيفة العرب
0 تعليقات