ميهوب رضوان - الجزائر

تعرفت على الرواية التي صدرت عن دار الآن فبراير 2016من خلال مقالة بعنوان: "عندما تصبح الكتابة وطناً " للكاتبة الأردنية نوال فاعوري نشرتها على موقع جريدة "الثقافية الجزائرية".. منوهة إلى "أن من لم يقرأ هذه الرواية كأنه لم يقرأ شيئاً من هذا الفن الراقي"، تمنيت من كل قلبي أن أجد طريقي للحصول عليها ووجدتني أراسل كاتبها المقيم في الأردن فيستجيب لطلبي مشكوراً.
قبل كل شيء وبالإشارة إلى موضوع الرواية المعني بالقضية الفلسطينية فأن اقتضاء الحال يلزمني التنويه إلى ثلاث روايات أخذت مكانتها في الأدب العربي مدرجة في قائمة الأدب الفلسطيني من حيث الموضوع والمستوى الفني.. وهي رواية "عائد الى حيفا" للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، و"الطريق إلى بئر السبع" للكاتبة البريطانية إيثيل مانين، و"الطنطورية" للكاتبة المصرية رضوى عاشور ثم رواية "صخرة نيرموندا" التي تميزت عن سابقاتها من حيث شمولية الطرح والتعامل مع المدن ككائن حي له مشاعر وذاكرة لا تبور، وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أصحاب هذه الروايات ركزوا على حجم المأساة عاطفياً حتى يحس القارئ بمدى عظمة الخسارة التي أدت إليها النكبة في فلسطين؛ لتأتي "صخرة نيرموندا" مكملة ما افتقرت إليه هذه الأعمال بالتعامل مع المدينة كشخصية حية من خلال سكانها بكل ما لديهم من متناقضات، رواية تذكرني بأعمال العمالقة من أصحاب القضايا الكبيرة.. والتي تنتمي إلى الإنسان وهمومه وحقه في الحياة.
ففي هذا الزمن بالذات الذي ملئ بكثير من الأعمال الروائية الهابطة التي تنتمي للرواية التجارية، يطلّ علينا السباتين من خلال رواية " صخرة نيرموندا" التي كتبت بمداد الوعي والإنسانية بمنطق الضمير الحر، كأنه يكتب للعالم ما يحدث في مكان ما ليسلط عليه الأضواء من خلال ذاكرة لا تبور. فوعي الكاتب أعطى للرواية هالة توضح الظلم الذي أصاب فلسطين من خلال يافا، عززها بالصور الفنية المدهشة وكأنك تقرأ قصيدة نثرية سهلة ممتنعة، لتجدها محيطة بصفحات الرواية.. وكلما غصت في عالم الرواية وجدت حجم الهالة يزداد إلى درجة انك في بعض المشاهد تكون حاضرا وتنسى نفسك لتنقب على ما مر عليك من أحداث لتجدها في ذاكرتك حاضرة في كل مكونات الرواية وما تضج فيها من أحداث متعاقبة أو متداخلة الأزمنة والأمكنة، فمثلا في حوار سعد الخبايا مع تلك الطفلة عبير كما سنأتي على التمثيل به في سياق هذا المقال، هنا وجدت الباب مشرعاً للدخول إلى شوارع يافا وشعرت بما شعرته وأنا أجوب شوارع القصبة في الجزائر العاصمة حقاً لقد أبدع السباتين بارتقائه بلغة الضاد في روايته وبتخيلاته التي جسدها في هموم سعد الخبايا من خلال أحداث متوالدة، فالرواية زاخرة بالنصوص والعبارات المدهشة التي أقل ما يقال عنها أنها كادت تضمحل في هذا الزمن.

يقف المتلقي أمام هذه الرواية في ذهول ليتابع بطل الرواية المحبط "سعد الخبايا" وهو ينهض بكل ما يضج في رأسه من أساطير كنعانية زخرت بها حكايات الجدات.. وخاصة أميرة يافا " نيرموندا" التي أسرها الغزاة.. وتركوها مكبلة بالقيود على الصخرة التي حملت اسمها.. ليواجه الواقع بعد أن تفجرت طاقاته الإيجابية بعد عشقه لتلك الأميرة التي أيقظته من سبات.
كان ذلك حينما صادفته تلك الطفلة المجهولة التي وجد فيها شبهاً كبيراً مع معشوقته بلقيس.. وقد توافق أن يتحرر سعد من عالم الأساطير ليتصدى للمشاكل التي اعترضت طريقه وهو يتعقب تلك الطفلة التي قالت له وهي تحمل السكين الذي جلخه لها" أبي يريد قتلنا بهذا السكين".
السباتين بدأ روايته قائلاً على لسان الراوي العالم ومتعدد الأصوات:
"1"" الأقدار لا تعبث بكَ يا سعد.. بل تحترم إرادتك.. فمتى قرَّرْتَ أمراً؛ قُدِّرَ لك!
وتلك الطفلة التي باغتَت حياتكَ كانت بوّابة لشـيءٍ تريده! هذا ما نَما في رأسِكَ دون أن تستوعبه! أمّا اسمكَ الذي أرغموكَ عليه يا «سعد الخبايا».. فهو الذي أشعل الفتيل..!" ص(5)
وهذا يوحي بأن بطل الرواية المحبط كان يصارع من أجل بناء الذات منتظراً ما يفوقه من سباته الطويل كي يتغلب على هزائمه المتوالية. ومن هنا كان عليه تجاوز إملاءات الآخرين كي يجد نفسه.. ولكن شخصيته المحبطة لم تمنعه من رفض ابنة خاله التي فرضتها عليه والدته الأرملة كما بينه الراوي:

"2"" فلا يتوانى هذا الشغوف بالأساطير من إلقاء نفسه في أتونها، باحثاً عن ذاته الغريبة بين أهله؛ للاستحواذ على أحلامه المستحيلة.. فيجأر بصوته، فلا يسمعه أحد غيره:
- هنا سأكون كما أريد!».. صارخاً في عالم هو سـيده:«لن أتزوج بهذه البلهاء! أنا سـيد القرار في حياتي». ثم يبصق مِن فمه وعود الكبار المقطوعة، في نوبة غضب مكتوم، متمرداً بصمت، دون أن يقوى على فعل شـيء، أو يكترث لما سـينبِّهه إليه الكبار وهو شارد الذهن أثناء أيّ عمل يُنَاطُ به: «انتبه يا فاشل». ص(9)
لكن الطفلة التي صادفته أحيت فيه طاقة التغيير..
"3"" ما الذي يدفع بهذه الصغيرة إلى الارتعاد على هذا النحو! وكيف يتوافق أن يسلِّمها السكين وهي مرتعدة الفرائص!
سألها: «ألا تملكين النقود! لا بأس».
عاد إلى مكانِه ولفَّ نصل السكين بقطعة كرتون سميكة طواها بالقماش، ثم أحكَمَ رباط السكين، وعاد يسلِّمها للصغيرة، ثم سألها وقد هبط جالساً القرفصاء حتى مستوى عينيها، إذْ أحاطها بعطفه، منبِّهاً:
- ما اسمكِ يا ابنتي؟
- عبير..
- خذي السكين يا عبير، إنه آمن الآن.
ثم مستعلماً:«أليس الأجدى بأبيكِ الحضور؟».
فانفجرت باكية، ثم جلست القرفصاء مفزوعة كفرخة حان ذبحها: «لا أحب أبي، فهو يريد ذبحنا». ص (20).

لينخرط سعد بعد ذلك في هموم مدينة يافا التي غيب الاحتلال ملامحها، باحثاً عن هذه الطفلة ليكتشف أيضاً في أتون ذلك بأنه يبحث عن معشوقته بلقيس لوجه الشبه بينهما.

"4"" تصلَّبَ سعد أمام صورة بلقيس وهي تعربد في رأسه المتعب، متمتماً:
«كأنها صورة مصغَّرة عنكِ يا بلقيس! إلا أنها مسكونة بالعذاب»، ". ص (22).

وأثناء ذلك تتقد إرادة سعد ليولد من جديد مناضلاً وعاشقاً حتى الموت.. وكان غريمه اليهودي داود قد وضع في طريقه ثلاث جرائم وهي: مقتل زوج معشوقته ورئيس البحارة خطّاف.. ومقتل العرافة الغجرية التي تنبأت بكل ما أحيط به من مصائب.. ثم الحريق الذي أتى على مزرعة طائر الوقواق ليتطاير كالقنابل في هشيم يافا.. وكان سعد قد طوى ذاكرته لينضم إلى المقاومة السرية فيساهم في خطف السفينة "هيرتزل) التي كانت تقل المهاجرين اليهود إلى شواطئ فلسطين.. ثم يختبئ في إحدى المزارع حيث جمعته الظروف ببلقيس ليكتشف بأنها ذاتها هي والدة الطفلة التي أيقظت وعيه من جديد.. لتنتهي الرواية بمعانقة سعد الخبايا الموت في سبيل يافا..فتشاهده ابنة الرجل الذي أواه واعتنى به دافعاً إياه لينخرط في المقاومة.. وقد تعانق مع أميرة يافا على صخرتها..
وبوسع القارئ مراقبة المشهد عن كثب.. وزكية التي أحبت سعد من طرف واحد تراقب البحر:
"5"" ثم انتبهت زكية كأنها استيقظت من نوم مثقل بالكوابيس.. بحثت حولها فلم تجد عبد الجواد.. كانت الطفلة سحر تتشبث بها بقوة:
«أين أمي!».
وكانت الأبواب تصفق وراء عبد الجواد الذي جأر صوته عالياً:
«الصمود يا ناس.. يافا تحتضـر».
وأحسَّت به تتخاطفه الطرقات إلى حيّ العجمي ليذوب عشقاً بيافا حتى الموت.. يافا الحياة.. يافا ذاكرة لا تبور..
«درَّة العقد الفلسطيني الذي سطى عليه الغزاة».
كانت آخر عبارة كتبها سعد الخبايا في دفتر مذكّرات زكية حينما ألحّت عليه كي يكتب لها شـيئاً مِن أجل الذكرى..
وها هي زكية تتحصَّن بالنافذة من جديد وبيدها بندقيّة.. تشاهدها والدتها التي كانت تتوكّأ على حافّة الباب:
- أين ذهبوا!؟
فاستيقظ قلبها حينما لجأت إليها الطفلة سحر:
«جدّتي.. أريد أمي».
فضمّتها كأنها تضمّ يافا.. أخذتها إلى الفراش وقد هزمها الوهن.. كانت مثقلة الرأس، وهي توصي زكية:
«هذا كل ما تبقّى لنا يا ابنتي.. لا تجازفي بإطلاق النار يا زكية.. انتظري الرجال حتى يطرقوا الباب علينا».
ثم تصاعد أنينها وهي تتمتم للصغيرة بشـيء كان يخرج من قلبها الشفوق.. فلم تنتبه زكية لذلك، لأنها كانت تتلاحم في تخاطُر فطري مع البحر الذي لن يغادر يافا.. وإلى الأبد..
«مِن أجلك يا سحر لا بد أن نعيش هنا..
يافا لن تغادرنا؛ فكيف نعيش دونها!؟». ص (261).
الرواية تؤرخ لمقاومة أهل المدينة بكل أطيافها، لا بل تعيد بناء المدينة معمارياً قبل أن يلتهم الاحتلال ملامحها.وقد وفق الكاتب في ذلك إلى درجة مدهشة.
ويمكن إدراج الرواية في خانة (الواقعية السحرية) نظراً للغتها السردية المليئة بالصور الشعرية المبهرة.. واحتفائها بالأساطير والرموز الكنعانية واليهودية ذات الدلالات الإنسانية والتاريخية.. وحياة الغجر متأثراً كما يبدو بالأدب الإسباني.. وتوظيف طائر الوقواق في تحديد ملامح المحتل برؤية فنتازية ولغة سردية شعرية سهلت على الراوي (العالم) التنقيب في الأعماق ووصف مدينة أعدمت ملامحها..
واستخدم سباتين في كتابتها كل التقنيات الروائية باقتدار قل نظيره، والمدهش أنك حينما تفتح لك الرواية أبوابها لن تتوقف عن متابعة أحداثها المركبة التي اختلطت فيها الأزمنة في مدينة يافا حتى تصل إلى نهايتها؛ لتشعر برغبة جامحة تحدوك لقراءتها من جديد. فالأحداث مشوقة وممتعة وواقعية بحيث يجد القارئ نفسه يتجول مع الشخوص في حواري المدينة وتصافح عيناه يافا وأساطيرها وزعمائها حتى النهاية الرمزية التي ستفتح أمام القارئ أبواب المنافي وكأنها البداية.. يافا ذاكرة لا تبور..
"5""يافا لن تغادرنا؛ فكيف نعيش دونها!؟».
وعن القيمة الأدبية للرواية فلقد قرأت رواية تحصلت صاحبتها على "جائزة نجيب محفوظ" للآداب دون الإشارة إلى اسمها (كوننا بصدد مقارنة عمومية وليست تشخيصة)؛ فلمست الفرق الكبير بين رواية كتبت بنفس عالمي لارتباطها المكاني ببيئة الكاتب، وهذا ما تجده في "صخرة نيرموندا" فلا أظن حتى جائزة نجيب محفوظ توفي هذه الرواية حقها لأنها (وهذا رأي أسجله بحق الرواية) تضاهي حتى أولاد حارتنا التي نالت نوبل للآداب، "صخرة نيرموندا" ليست رواية يغوص في أعماقها القارئ للهروب وسد الفراغ أو حتى مجرد تدجيج رأسه بعنوان لكتاب ما قد يتراكم مع غيره في رفوف ذاكرته فينسى. لكن ذلك لن يكون في حالة "صخرة نيرموندا" لأن عنوانها سيكون مفتاحاً لذاكرة لا تنضب..وبدون مبالغة؛ فكلما قرأت رواية بعدها لن تعجبك! فهي الرواية التي إذا بدأت قراءتها لن تتوقف حتى تصل إلى النهاية لأن الراوي يأخذك بيديه كي تتعايش الأحداث فلا تخرج إلا وقد التقطت شيئاً يذكر.
*رواية " صخرة نيرموندا" للروائي والتشكيلي الأردني بكر السباتين.. من منشوران دار الآن موزعون وناشرون/ فبراير 2016

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم