ترتحل اللبنانية مريم مشتاوي في روايتها "عشق" بين عدة مدن، من بيروت إلى نيويورك مرورا بلندن، ترصد محطات من حياة بطلتها التي تنتقل وفق إيقاع سريع يتناغم مع إيقاعات الأمكنة التي تجد نفسها فيها، ويكون المكان ملقيا بظلاله على حركية المشاهد والشخصيات المواكبة للبطلة، بحيث تتعاون لتصدر صورتها المأمولة إلى القارئ. مشتاوي شاعرة وأكاديمية تحمل الجنسية البريطانية، وأستاذة اللغة العربية بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن منذ أكثر من عشر سنوات. صدر لها عدة دواوين شعرية، وأسست صالونا ثقافيا في لندن تستقطب إليه عددا من الأدباء والشعراء والمثقفين العرب والأجانب. لا تخرج مشتاوي في روايتها الأولى (دار المؤلف في بيروت 2016) عن فرضية اتكاء الروائي على سيرته الذاتية في روايته الأولى، مهما حاول التلاعب بالشخصيات أو الأحداث، تكون السيرة الأرضية التي تنطلق منها، وتشير إلى وجوب الفصل بينها وبين بطلتها، لتؤسس عبر الخيال لعوالمها، وتعالج من خلال مواقف مشهودة من حياتها قضايا أثرت فيها وساهمت في توجيه اهتماماتها هذه الوجهة أو تلك. ثنائيات ومفارقات يحضر في الرواية نوع متسلسل من الهجر والفقد، وكأن ثنائية الهجر والفقد تكون مكملة للعبة الألم والأمل، وخدعة الحكاية والواقع، والخيال والحقيقة، والشرق والغرب، والأدب والفحش، والانتماء والتنكر، والهجر والبقاء، وكذلك ما لا يمكن الوثوق به من مشاعر مختلطة، تضع صاحبها في معمعة متجددة وتبقيه نزيل خيباته المتكررة. بطلة الرواية "عشق" شاعرة قادمة من بيروت إلى لندن، تعيش مفارقات الاغتراب، تظل مسكونة بالحنين إلى مدينتها، وتحاول التأقلم مع مدينتها الجديدة، تسعى لإكمال مشروعها الأدبي، وتدخل الوسط الثقافي والصحفي، وتجاهد للبحث عن موطئ كلمة لها في ذاك الوسط. تهرب "عشق" من حكاية حب فاشلة، تكون الطائفية علة العلل في تلك الحكاية التي تبقى ذات تأثير مستمر في حياتها، توقع نفسها في فخ رجل تصادفه في سهرة لندنية، تحاول التداوي بحب سريع طارئ مفتعل، لكنها تدفع ثمن خطيئتها، ففي الوقت الذي تجاهد لنسيان حبيبها السابق كريم، تحمل من رجل يتنكر لحملها، ويطلب منها إسقاطه، وهي تتشبث بذاك الحمل كأنه وسيلتها للخلاص من مأساة الغربة والبعد. تتمثل خيبتها الكبرى في إصابة مولودها بالسرطان، تجد نفسها في أروقة المشافي، تتبنى قضية الأطفال المصابين بالسرطان، تسعى لدعمهم والاهتمام بهم، يكون فقدها لابنها مأساة لا تنسى بالنسبة إليها تضاف إلى مآسيها السابقة، وتمهد لفجائعها اللاحقة. ترمز صاحبة "حين تبكي مريم" إلى دور الصداقة كحامية للبطلة، وتصور لجوء المرأة المنكوبة إلى أحضان حب مجهول في ظن منها أنها تتحدى ظروفها وتأمل تحقيق نوع من التوازن والسعادة لنفسها، لكن الهشاشة التي تسكن روحها تقودها في دروب الهلاك، وتظل مريضة بحب سابق، وحب الابن الراحل، ثم حب الشعر ونزعة اختلاق الحكايات ومحاولة التداوي بها. تشتيت وتسرع توقع الروائية قارئها في نوع من التشتيت بين الأزمنة والأمكنة، تنوّع في التواريخ، تسرّع في نقل الأحداث من محطة إلى أخرى، وأظهرت السرعة في بعض الفصول رغبة مواربة في إنهاء الفصل بطريقة ما والانتقال إلى آخر، وترك بعض التفاصيل معلقة، أو تائهة في لعبة السرعة والانزياح. لم تستطع مشتاوي التحرر في عملها من سطوة الشعر وهيمنة اللغة الشاعرية، فتراها تدس بين الفصل والآخر مقاطع إنشائية، لا تضيف أي تأثير على سير أحداث الرواية ومجرياتها، وتؤكد على دور الشعر في حياة بطلتها الشاعرة التي تعثر على خلاصها الوحيد عبره. في تصريح خاص للجزيرة نت عن اشتغالها في عملها، والتقاطع بين السيرة والرواية، والإيقاع السريع الذي يسم العمل، قالت مشتاوي "كأي عمل روائي نلجأ أولا إلى بعض الخيوط من حياتنا الشخصية، ولكن الخيال يساعدنا على حياكة هذه الخيوط وتطويرها لتصبح عملا روائيا متكاملا". وتعترف مشتاوي "نعم عشق تشبهني كثيرا، فهي مثلي شاعرة، وأردتها أيضا أن تنشأ وتتنقل في الأماكن التي أعرفها وعشت فيها وأحببتها، أي بين بيروت ولندن، ولكن سيرتها الذاتية تختلف تماما عن سيرتي، وربما أصبحت أشبهها لكثرة ما أحببتها". وتضيف أن "رواية عشق منحتني عمرا آخر وزمنا مختلفا عن الزمن الواقعي، وكأني بها عشت زمنين مختلفين في الوقت نفسه.. وربما يكون الإيقاع السريع صدى للواقع العنيف والسريع الذي نمر به، ويترك آثاره على مختلف جوانب حياتنا". المصدر: الجزيرة

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم