تتناول الكثير من الأعمال الروائية حكايات عن العلاقات الزوجية التي تظل، في مختلف مراحلها، ذات خصوصية حساسة، لا يستطيع المرء الإفصاح عنها أو التحدث في شأنها، لما تمتلكه من قدسية مليئة بالأسرار وما يكتنفها من غموض، وتبقى الطبيعة والأهواء والأمزجة من المحددات الرئيسية لاستمرار العلاقة بين الزوجين والحفاظ على الرابطة الأسرية، وقد يلجأ الراوي في الكثير من الأحيان إلى الخيال لتسيير الأحداث وإيجاد حبكة تشدّ أعمدة عمله الروائي.

يعتبر الكاتب النمساوي بيتر هاندكة من مواليد سنة 1942، من الكتاب المثيرين للجدل في الأوساط الأدبية العالمية، بالرغم من إنتاجه المرموق في الرواية والقصة والمسرح، وخصوصا مسرحيته “إهانة الجمهور”، وانتمائه إلى “حركة الطليعيين” الألمانية في السبعينات من القرن الماضي، إلا أن الجدل المرتبط به يتجاوز النشاط الأدبي، وينسحب على مواقفه السياسية، وخصوصا في ما يتعلق بأحداث صربيا والمجازر التي قام بها سلوبودان ميلوسوفيتش هناك. هاندكة حاصل على جائزة جورج بوشنر وجائزة فرانز كافكا، ومؤخرا عام 2014 حصل على جائزة إيبسن الدولية، التي أثار حصوله عليها الكثير من الجدل بسبب مواقفه السياسية. صدرت لبيتر هاندكة في هذا العام عن منشورات الجمل، رواية بعنوان “رسالة قصيرة للوداع الطويل”، بترجمة نيفين فائق، وتحكي الرواية قصة كاتب من النمسا يزور الولايات المتحدة للبحث عن زوجته التي يواجه في علاقته بها الكثير من المشكلات تصل إلى حدّ العنف الجسدي، إلا أننا نكتشف لاحقا العكس، فزوجته هي التي تطارده بغاية قتله، وهو يتنقل بين الفنادق هربا منها، لتنتهي المطاردة بمواجهة بين الاثنين، ثم زيارتهما للمخرج الأميركي المشهور جون فورد، ويحكيان له قصتهما وسط ذهوله ودهشته، ثم الإعلان أنهما مستعدان “للانفصال بهدوء” حسب تعبير الكاتب.

تتألف الرواية من فصلين “رسالة قصيرة” و”وداع طويل”، في الفصل الأول يؤسس الكاتب للسرد أو للحبكة البوليسية الغامضة التي ستسير وفقها أحداث الرواية، وستفسر جزئيا سبب تنقل الكاتب بين الفنادق، هذا الإرهاص للسرد يتمّ عبر رسالة يتلقاها الكاتب تحوي ثلاث جمل، “أنا في نيويورك. أرجوك لا تبحث عني. لن يكون خيرا أن تجدني”، لتبدأ بعدها سلسة تنقلات الكاتب بين المدن الأميركية وفنادقها الرخيصة، الفنادق التي يقف في غرفها مراقبا لذاته وانفعالاتها، إلى جانب ذلك نقرأ لقاءاته المتفرقة مع شخصيات عابرة، أهمها صديقته كلير والغراميات الحميميّة والغريبة التي جمعته بها.

وفي الفصل الثاني يبدأ ظهور زوجته يوديت بوضوح في السرد، تارة خيالا وتارة واقعا، بل إنها ترسل أشقياء لضربه وسرقة نقوده وهي تراقب ذلك، لينتهي الأمر بها إلى إطلاق النار عليه قبل أن يتجها إلى منزل جون فورد؛ لا ندري إن كان إطلاق النار حقيقيا أم متخيلا، فالكثير من تخيلات الراوي وهلوساته تمرّ بين دفتي الرواية، ما يدفعنا إلى التشكيك في حقيقة ما يراه وما يقوله.

فصام الراوي

في “رسالة قصيرة لوداع طويل” ينسحب الراوي من ذاته، ليحوّل حياته وذاكرته إلى سرد، فيؤدي دور المراقب لحياته التي تمضي الآن أمام عينيه، متنقلا بين الغرف الرخيصة والحانات الليليّة، ويبث في الفضاء تأملاته حول ذاته وعلاقاته وذكرياته، إلى جانب نظرياته عن طبيعة العلاقة التي تجمع الفرد مع المكان والزمان وكيفية إدراك العالم وعلاقة ذلك مع السينما والمسرح؛ بل وحتى الكتب التي يقرأها أثناء ترحاله.

الوحدة التي يحيط بها بطل الرواية نفسه تمنع خلق ارتباط عاطفي مع محيطه، فيكتفي بتأمله وتحديد الموقف من هذا الآخر الموجود سواء كان شيئا أو شخصا، أو فكرة، وخصوصا في ما يتعلق بعلاقته مع وطنه الأم، والمقارنات التي يقوم بها، ذلك لأن الماضي هو مرجعية ناقصة دوما، أما الآن فهو فسحة للتأمل. نحن نقرأ بالضبط ما يراه، بكل تفاصيله الصغيرة وانفلاتات الخيال التي يمرّ بها الراوي.

مستويات السرد

المطاردة بين الزوج والزوجة تأخذ الطابعا بوليسيا، لكن أيّهما يطارد الآخر؟ والراوي لا يفسر طبيعة هذه العلاقة إلا متأخرا في السرد، إذ تختفي الحبكة البوليسية تحت التأملات النفسية؛ فالرواية أقرب إلى “شهادة شخصيّة” تختفي في طياتها مطاردة وفرار ومحاولات للقتل، وهذه الشهادة تحضر فيها التفاصيل التافهة التي يعيشها الكاتب خاصة الهويات المهمّشة في بلاد العم سام كالمكسيكيين والسكان الأصليين والمهاجرين، وعلاقة الثقافة الأميركية بهذه الهويات، لتطرح أسئلة الانتماء مثل “ما الذي تملكه أميركا؟ ما الذي يعتبر أميركيا؟”.

التساؤلات حول ما هو حقيقي وما هو وهمي تحضر كموضوعة رئيسية في الراوية، فالكاتب أو رجل الخيال نراه يعيش قصة واقعية يسعى إلى تخيّلها، بل نراه يأخذ وضعية السارد النرجسي ما يساهم في فعل التشكيك؛ هل زوجته حقا تطارده أم هو فقط يهرب؟ أم أن كل ما نقرأه هو من نسج الخيال؟ أم مجرد نص يكتبه؟ هل حقا التقى المخرج المشهور؟ وهل تمتلك زوجته هذا الكم من الحقد لترسل له عبر البريد صندوقا يسبب الصعقات الكهربائية؟

الجواب يأتي من المخرج جون فورد، سارد الحكايات الآخر بقوله “هل كل هذا حقيقي؟ أليس في القصة شيء مختلق؟” لتجيب يوديت “نعم! حدث ذلك كله”، وكأن ما نقرأه هو تواطؤ بين كل من الراوي وزوجته لخلق حكاية لهما، فالراوي يواجه مشكلة في مهنته كمؤلف مسرح، وكل هذه التنقلات هي في سبيل الحكاية نفسها؛ في سبيل متعة سرد حكاية آسرة تقشعر لها الأبدان، بحيث تكون قصة انفصالهما صاخبة، لا تقليدية وغير اعتيادية، تثير المخيّلة والعواطف.

عمار المأمون عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم