الإرهاب لايعصف بالأرواح ولاينزعُ ألواناً من لوحات فسيفسائية ولايقوض أسس التعايش فحسب بل يغير جغرافيا الأوطان ويُقطع أوصال الحواضر ولا يرتدع عن انتهاك حرمة المقدسات، كما يتمادى في تحطيم الذاكرة باستخدام معاول الحقد والكراهية من خلال تسوية المعالم الحضارية بالأرض يشخص الروائي العراقي سنان أنطوان المقيم بنيوريوك في رواية "يامريم" مشكلة الأقليات الدينية في المجتمعات التي صارت بيئتها مواتيةً لجذب الأفكار المتطرفة نتيجة لجملة من العوامل الداخلية والخارجية المُتَمثِلة بترسبات الأستبداد ومراهنة الإحتلال على الثقافة الطائفية.. بجانب هذه الصورة السوداوية يُحاولُ صاحب (وحدها شجرة رمان) تقديم وجه أخر للعراق إذ يبدو في بعض محطات تأريخه بلداً يتسعُ لكل الطوائف والقوميات وذلك عبر إيجاد التقابل بين رؤية جيلين الأول يمثله يوسف والثاني تحمل مها شجونه.. يمتلك كل واحد منهما دليلاً في محاجاتهما.. إذ يجدُ يوسف في الماضي ما يبرهن به على صواب آراءه بينما تعتمد مها على الراهن الموغِل في الدم لدعم تصوراتها، يتمسك يوسف بخيار البقاء في العراق على الرغم من موت أُخته حنة وتبعثر أهله في الشتات إلا أنه لايتنازل عن قراره ويفضل أن يعيش مع ذكرياته مواظباً على اللقاءات المُتَقَطِعة التي تجمعه بنديمه سعدون، لكن مها التي تزامنت طفولتها مع نشوب حرب الخليج الثانية تعتبر بأن بقائها سيكون مؤقتاً في بلد المنشأ بعدما أصبح أبناء طائفتها مُسْتَهدفين ونزحت أُسرتها إلى عنكاوة بعد تلقي التهديدات.. وهي تقول بأنَّ كل شىءٍ يشعرها بإنتمائها إلى الأقلية، حيثُ تنمُ الظواهر الجديدة عن تنامي العُنف السلوكي واللفظي الذي يُشرعن نوع أخرمن العُنْف وهو العنف الجسدي.. حكايات الصور تفتتح رواية "يا مريم" بجملةِ عنونت الفصل الأول تحْمِلُ شحنة تعبيرية فعالة ينقلها السارد من مها وهي تقول ليوسف إثر مناقشة بينهما (أنت عيش بالماضي)، من ثم يتابع يوسف الحديث عن الظروف التى رأى فيها مها لأول مرة وهي طفلة داخل أحد الملاجىء كما يستعيد ذكريات أخته حنة ومشاكساته معها لأن الأخيرة كانت متدينة وحريصة على حضور القداس وضاع حلمها بأن تكون راهبةً لأنها تحملت مسؤولية رعاية العائلة بعد وفاة الأم، مع بدء الفصل الثاني يتحول ضمير السارد من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ويكون الراوي العليم مفوضاً بتصوير سرائر أعماق يوسف إذ ينثال عليه سيل الذكريات عندما يدخلُ غرفة المعيشة التي صارت جدرانها ألبوماً لصور أفراد العائلة تتوقف عدسة الراوي أولاً عند صورة جماعية للعائلة تعود إلى سنة 1941 من هنا يكون الراوي مبئراً موقع يوسف وهو يقدم الحاضرين في الصورة كل واحد منهم على إنفراد، يبدأ من والدين كوركيس ونعيمة يتواصل في ذكر حياة أسرته ومصائر أفرادها منهم منْ هاجر خارج العراق كما غيب الموت بعضهم.. لعل َّ أكثر مايشد القارىء في هذه الرحلة بين الصور هو مصير ميخائيل الذي يستسلم لحياة المجون بعد موت أبيه ويسرف في شرب الخمر إلى أن يلتحق بكوركيس، كذلك إلياس الذي عرف (سكينة خاصرة) تنتهي حياته بطريقة تراجيدية إذ يخرج من البيت ولايعود ويعثر عليه ميتاً في المنطقة التي كان يجتمع فيها مع أصدقائه الشوعيين .لاتكون الصورة تقنية لإستعادة ماضي أسرة يوسف فحسب,بل تكشف الصور مراحل مفصلية في تاريخ العراق مثل صورة المتخرجين من كلية بغداد وهي بمثابةوثيقة عن نسيج المجتمع العراقي المتنوع حيث تجد في الصورة إضافة الى يوسف سالم ونسيم والأخير من الطائفة اليهودية، فضلاً عن صورة التي تجمع بين الزعيم عبدالكريم قاسم وحبيبة، لكن في زحمة الصور تُوجدُ صورة مرتبطة بحالة يوسف الوجدانية تعود به إلى اللحظة التي شعرفيها بأنَّ الحُب لايعترف بحاجز الزمن ولا الدين ولا الطبقة ورسخت لديه هذه القناعة عقب لقائه بدلال العائدة من بريطانيا على الرغم من وجود الإختلاف الديني أن الحب قد نشأ بينهما وهو كان مستعداً لإشهار إسلامه لكن لم يسفعه ذلك لإنقاذ الحب. رمزية الشجرة تتوارد كلمة النخلة على مدار الرواية بحيث تخرج من حقل دلالتها المعجمية وتدخل سياقا رمزياً وتكون هذه المفردة مُنفتحة على دلالات دينية وحضارية وإقتصادية.. أحياناً تحيلك النخلة إلى حضارة حامورابي أو تأخذُ من السياق فكرة عن مكانة هذه الشجرة في الدين الأسلامي ناهيك عن أهميتها في الدين المسيحي إذ ينبه يوسف أخته بأن في أحد الأناجيل قد وردت الإشارة إلى الأيحاء لمريم العذراء بهز جذع النخلة وهذا التلميح يأتي في وقت يستمع فيه الأثنان إلى سورة مريم بصوت عبدالباسط كما يصعب تجاهل دلالة إقتصادية للنخل إذ يشير تراجع الأهتمام بها إلى ماشهده العراق من التحول الإقتصادي وظهور النفط كبديل وما يتركه من تأثيرات على طبيعة الحياة الإجتماعية والسياسية..فضلاً عن ذلك يؤنسن الكاتب شجرة الزيتون وما ترمز إليه مرارة طعمها إلى آلام المسيح حيث تتذكر مها بعد إجهاض طفلها ماروته جدته عن بكاء المسيح إذ سقى الزيتون بأحزانه، كما تحولت زهرة زارقي إلى رمز خاص بيوسف لأنها عربون حبه لدلال. شعرية الوصف لاتختزل وظيفة الوصف إلى الجانب التزيينى أو التفسيري كما ليس الوصف مجرد إستراحة تُمَهِد لمفصل سردي جديد، بل قد يلعب الوصف وظيفة إيثارية أو إنفعالية حيث يتم كشف دواخل الشخصيات وتفاعلها مع البيئة إذا تم تصوير مكونتها إعتماداً على تقنية الوصف وذلك ما يجسده الوصف لزخارف الكنيسة وصور العذراء المحاطة بالملائكة إذ تتداعي في ذهن يوسف ذكرى حنة كما يجد المتلقي شخصية يوسف من مستوى أخر ويتعرف أكثر على معتقداته وقناعاته حول مسألة البعث وثنائية الروح والجسد. قربان الذكرى يدور الفصل الأخير من الرواية حول رغبة مها للإعتذارمن يوسف عن كلامها القاسي وهي تريدُ أن تصحابه إلى الكنيسة، لكن يسبقها بالوصول بعد مروره بصديقه سعدون إذ وعده بأن يوقد شمعة لروح حنة نيابة عنه وعندما يبدأ يوسف بإيقاد الشموع تُطفيء الرياح إحدها كأن هذا الامر إشارة لما يحل به إذ بعدما يقتحم المسلحون كنيسة سيدة نجاة ويرشقون المصلين بوابل من الرصاص يُقتلُ يوسف لكن مها تنجو دون أن تحقق رغبتها بالإعتذار ليوسف، هنا يجب على القارىء أن يبحث عن الدلالات غير مصرحة بها وراء هذا المشهد الختامي، يتنوع الضمير في رواية "يامريم" يتراوح بين الغائب والمتكلم كما يؤثر الكاتب إستخدام اللهجة العامية العراقية في المقاطع الحوارية ويجرب توظيف تقنية الحلم كونها إنزياحا عن الواقع أو معبراً عن هول ما تَمرُ به الشخصيات من أجواء ملبدة بالخوف والترقب.كما تتدخل الأزمنة في إطار الزمن الذي يستغرقه بناء الحدث هنا يكون تعامل سنان أنطوان مع عنصر الزمن قريباً من أسلوب الكاتب الأمريكى دان براون فالأخير تدور أحداث بعض رواياته في إثنتى عشرة ساعة مُتشابكة مع وقائع تاريخية، معالجة سنان أنطون لموضوعات في غاية الحساسية تفتح باب أسئلة عديدة حول مستقبل العراق والتسامح ومصير الأقليات الدينية التي لها جذور عميقة في تاريخ هذا البلد.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم