يدل مصطلح الشخصية في التحليلات الشكلية والسيمائية على ظهور اسم علم في النص الروائي أو ما يدل على العلمية مثل الكنية واللقب. ويستتبع هذا الظهور فجوة في عملية القراءة قد تمتلئ بالمعنى وقد تبقى فارغة, فإذا كان الاسم أو ما يعادله قابلين للامتلاء، فإن ذلك يحدث إما دفعة واحدة كما في روايات القرن التاسع عشر الواقعية، وإما بالتدرج إلى غاية انتهاء الرواية. «في القرن التاسع عشر عندما احتلت الشخصية مكانا بارزا في الفن الروائي أصبح لها وجودها المستقل عن الحدث، بل أصبحت الأحداث نفسها مبنية أساسا لإمدادنا بمزيد من المعرفة بالشخصيات أو لتقديم شخصيات جديدة». ويأخذ الاستلاء المذكور شكلين إثنين: أولهما التراكم؛ إذ إن كل فعل يحدث يعمل على إظهار صفة جديدة تنضاف إلى مجمل النسق المميز للشخصية أو تلك؛ أما ثانيهما: ففيه يكون الامتلاء عن طريق العلاقات بين شخصيتين أو بين مجموعتين من الشخصيات، وتتنوع هذه العلاقات تبعا للأغراض والموضوعات thèmes التي تراها المؤلفة مناسبة لروايتها. وحين متابعة قراءة رواية لحظات لا غير، تمكن ملاحظة التنوع التالي: أ‌. وجود شخصيات تظهر أهميتها على صعيد المضمون الحكائي الذي يقترحه السارد، أي الشخصيات التي تقوم بأعمال وأفعال هامة أو ثانوية في سيرورة الحكاية. ومثال ذلك الطبيبة أسماء الغريب والأستاذ وحيد الكامل، أم الطبيبة، أم ووالد المريض، ثم سوزان الكامل زوجة وحيد الكامل "ظهرت سوزان كملاك من السماء بكرمها" .
ب‌. وجود شخصيات تظهر أهميتها على صعيد الخطاب السردي أو الكاتبة وطريقة الحكي. وهي لا تقوم بأعمال، لكنها تنهض بوظيفة إبراز بعض الأجواء والمناخات المرتبطة ببعض التطورات في سيرورة الحكاية؛ ومثال ذلك أمينة الممرضة المساعدة، زوج وطليق أسماء الغريب ماري صديقة وحيد الكامل في السوربون ، إبراهيم صديق وحيد الكامل ورفيقة خلال سنوات التلمذة ، والد وحيد الكامل ووالدته وأخوه وأخته من أبيه ، المرشدة السياحية في باريس ، النادل ، النادلة في مقهى الشروق ، الحاجة الضاوية ، أخت أم أسماء الغريب القاطنة بمراكش ... وغيرها. ت‌. وجود شخصيات تذكر بأسماء كاملة، مثل وحيد الكامل ، أسماء الغريب سيجموند فرويد ، خورخي لويس بوخريس ، رونيه شار(ص49) سير ويليام أوسلير (ص53) الدكتور عبد الرحيم الطويل (ص 98) الدكتور محمد الصافي (ص 99)، الدكتور كريم الأشقر (ص 156)، لوركا (ص 157)، محمد عبد الوهاب ، خوصي أنخيل بالنطي ... غير أن هذا الوضع لا يذل على أهمية الشخصية ذلك أن البروفيسور عبد الرحيم الطويل (98) والدكتور محمد الصافي شخصيات تذكر باسمها الكامل مضافة إليه الصفة المهنية، غير أن فعلهما على صعيد المضمون الحكائي ثانوي جدا إن لم يكن منعدما. ث‌. وجود شخصيات لا تذكر بأسمائها، إنما يشار إليها ببعض النعوت الدالة على السن أو المهنة أو المهمة أو القرابة العائلية من الشخصيتين المركزيتين للحكاية. ومن نماذجها: والد وأم وحيد الكامل ، أم أسماء الغريب ، أستاذ أسماء الغريب في اللغة العربية جدة وحيد الكامل من أمه ، مضيفة الطائرة المرشدة السياحية في باريس ، الأرملة (ص 69)، الطبيب (ص 72)، أناس مسنون (ص76)، ممرضة بدينة ( ص77) أستاذ الطب النفسي ( ص 82)، النادل (ص88) النادلة (93) أعضاء المجلس التأديبي ( ص141) ... ج‌. وجود شخصيات تذكر باسم مفرد عار من الكنية واللقب مثل عبد اللطيف ، ماري (ص 27-31)؛ وهي صديقة وحيد الكامل أيام الدراسة الجامعية في السربون، سحاقية عاشقة للنساء والفن، رشيد ( ص76). ح‌. وجود شخصيات تذكر بصفتها المهنية فقط أو وضعها المجتمعي. تلاميذ، الأطباء، المعتقلون، الطلبة، العشاق في المتاحف وحدائق باريس، زوجان مغاربيان بالميترو ... الشاعر، الكاتب والطبيب... خ‌. وجود شخصيات يشار إليها ببعض الصفات فقط الأرملة، الحاجة، المريض، المسنون، العجزة، العشاق... د‌. وجود شخصيات يتواتر ظهورها ويتكرر على امتداد النص الروائي، وأخرى لا تظهر إلا لماما أو بعض المرات؛ فالساردة الطبيبة أسماء الغريب ومريضها وعشيقها ثم زوجها وحيد الكامل يمثلان النمط الأول، أما النمط الثاني من قبيل البروفيسور كريم الأشقر والدكتور عبد الرحيم الطويل ومحمد الصافي وعبد اللطيف المعتقل السياسي السابق وأمينة الممرضة المساعدة لأسماء الغريب... ذ‌. شخصيات تتحدث عن نفسها وعن شخصيات أخرى مثل وحيد الكامل وأسماء الغريب وسوزان الكامل ... بينما نجد شخصيات أخرى مثل والد وحيد الكامل وأمه وإخوته، وأم أسماء الغريب وطليقها الطبيب تكون موضوع حديث. وهاتان الوضعيتان غير قارتين، إذ كان بعض الشخصيات تتبادل وجودها فيهما، أسماء الغريب تتحدث عن وحيد الكامل وهو يتحدث عنها وعن سوزان وعن ماري وعشيقاته السابقات. غير أن المهيمن في رواية لحظات لا غير هو أحاديث أسماء الغريب عن معظم مكونات مجتمع الرواية وسيطرة منظورها لها ورؤيتها عنها. ويظهر من خلال هذا الجرد غير النهائي المتنوع الشديد في أساليب تقديم الشخصيات داخل رواية لحظات لا غير. وإذا كان هذا التنوع يضع القارئ أمام صعوبة تصنيف جميع مكونات مجتمع الرواية، فمن الموائم الاستعانة بتصنيف يهتم أساسا بطبيعة الأعمال التي تنهض بها هذه الشخصيات إما على صعيد المضمون السردي، أي سلسلة الأحداث التي تقدمها الرواية، وإما على صعيد المنطوق السردي أي الخطاب المكتوب الذي ينهض برواية هذه السلسلة من الأحداث. ومن الموائم في كل تصنيف اعتبار خصوصية النص وتميزه، وكذا طبيعة الأدوار التي تقوم بها الشخصيات فيه. وفي الامكان التوكيد مجددا على أن رواية لحظات لا غير تعبر في المقام الأول عن تطورات علاقة طبيبة نفسانية أسماء الغريب بمريضها وعشيقها وزوجها وحيد الكامل، وعلى أن الشخصيات الأخرى سوزان وأقربائه، ثم زوج أسماء الغريب وطليقها وهيئة الأطباء وباقي الشخصيات الثقافية والفنية ليست سوى اضاءات للمكونات الثقافية والمجتمعية والدينية للشخصيتين المهيمنتين أسماء ووحيد. وإذا كان المعيار الأول يضع في اعتباره عمل الشخصية على صعيد المضمون السردي، في الإمكان الإدلاء بملاحظتين: • الملاحظة الاولى: أن رواية لحظات لا غير تحتوي شخصيات مميزة بالمبادرة بأعمال مستقلة أويستتبعها تطورها النفسي والعاطفي، مثل شخصيتي أسماء الغريب ووحيد الكامل اللتان تعود إليهما وترتبط بهما جميع تحولات الحكاية في الرواية مثلما أن هذه التحولات هي ناتج منطقي ومباشر لما يطرأ على علاقة هاتين الشخصيتين. وترتيبا على ذلك فالمضمون السردي برمته يتمفصل على شخصيتي أسماء ووحيد ويتمحور حولهما، بل إن أسماء الغريب متحكمة بدقة السرد تعلو أفعالها على جميع الأفعال ويعلو صوتها فوق جميع الاصوات وتكتسح رؤيتها للعالم جميع ثنايا ومنعطفات النص. تنثني الرواية وتنبسط ضمن حركة شبه لولبية، وفي جميع مراقي اللولب هناك أسماء الغريب، بل إن حجم وسعة هذه المراقي تحددها أسماء الغريب التي تحكي سيرتها وفي الحين ذاته حيرة علاقتها بوحيد الكامل. • الملاحظة الثانية: فتقول بوجود شخصيات لا تستقل بأعمالها وأفعالها، وإنما تأتي سلوكاتها نتيجة علاقتها بالنمط الأول، ولذلك تضعف نسبيا سيماتها النفسية تمييزية. ولا نعرف عنها إلا ما تخبرنا به عنها أسماء الغريب ووحيد الكامل؛ كما يصدق هذا على شخصية سوزان الكامل، يصدق كذلك على شخصية البروفيسور عبد الرحيم الطويل والدكتور محمد الصافي والدكتور كريم الأشقر. سوزان الكامل " امرأة شقراء، في منتصف العمر، ذات أناقة لافتة للنظر بعينيها شرارة تحدي" هذا ما تخبر به عنها أسماء الغريب عند زيارتها لها في العيادة من أجل استرداد زوجها الذي سقط صريع غرام الطبيبة النفسانية الشاعرة والساردة. وضمن هذا النمط من الشخصيات، يعتبر القارئ على من يضطلع بمهام وظائف المساعد والمعارض في تطور علاقة أسماء ووحيد، علما أن المساعد والمعارض نجد أن دلالتها ضمن الخطاطة السردية التي أرساها ألجيرداس جوليان كريماس. وحين اعتبار عمل الشخصية وفعلها على صعيد المنطوق السردي أو الخطاب، ففي الإمكان التنبيه على الأتي:

  1. وجود شخصية ذات وظيفة واصلة: وهي شخصية أسماء الغريب، ساردة وطرف في الحكاية، و تتجلى في الوصف والحوار والربط بين الأحداث التي تشكل فاعلا فيها ومعلقا عليها، وهي تحتكر هذه الوظيفة بركود آلة السرد الذاتي القائم على استثمار ضمير الشخص المتكلم بما تتبعه من إمكانات شعرية تفتح المجال والواسع أمام شَعْرَنَةِ خطاب الحكاية، وبما يتجه كذلك من إمكانيات فتح خطاب الرواية على السيرة الذاتية، وهذا ما يعلنه خطاب الرواية في الكثير من المواضع التي يعلو فيها صوت خطاب الحراسة، الخطاب النظري – النقدي المتخلل لخطاب التخييل: "فكرت.. نادرا ما ينجو الكاتب من السيرة الذاتية في عمله الأول" . وهذه الاشارة توكيد إضافي لما هو مؤكد بالبداهة، أي حضور العنصر الأتوبيوغرافي ضمن الرواية، ويصدق هذا على عموم الرواية، وعلى رواية لحظات لا غير التي تستعيد لحسابها الخاص عناصر من السيرة الذاتية للكاتبة الطبيبة فاتحة مرشيد.
  2. وجود شخصيات مجازية أو ذات وظيفة مجازية: ويحمل المجاز هنا دلالة التجسيد المكثف والمختصر لواحد من الجوانب النفسية في شخصية أسماء الغريب أو وحيد الكامل والمقصود هنا بالذات شخصية عبد اللطيف المعتقل السياسي السابق الذي يشكل الوجه الاخر الممكن لبطل الحكاية: وحيد الكامل، وشخصية سوزان الكامل وماريا السحاقية اللتان تشكلان بعضا من ظلال ضوء أسماء الغريب ومُمْكن تطورها السردي.
  3. وجود شخصيات ذات وظيفة تكميلية: أي أنها تظهر فقط للإيهام بالواقع أو لإحداث ما يدعوه رولان بارت أثر الواقع وما يسميه مايكل ريفاتير الوهم المرجعي؛ أي الأثر الذي يتوهم القارئ بمقتضاه أن ما تحكيه الرواية واقعي وقد حدث فعلا. والواقع أن كل ما في الرواية واقعي إلا الرواية بِرُمتها، فهي محض تخييل. وأمثلة هذه الشخصيات كثيرة منها: أمينة الممرضة المساعدة، إبراهيم صديق وحيد الكامل في الحقبة التلاميذية، أخ أسماء الغريب وزوجته، أستاذ اللغة العربية، الزوجان المغاربيان بالميترو، الأرملة، النادل، النادلة، خالة أسماء الغريب القاطنة بمراكش(ص 131)... .
  4. وجود شخصيات تقوم بإحداث أثر ثقافي – علمي وفني: والمقصود بذلك أنها تُحيل على معرفة مُحددة خاصة بشخصيتي الطبيبة الشاعرة أسماء الغريب والشاعر المكتئب وحيد الكامل: سيجموند فروي ووليام فلييس ، شاعر البوسنة عزت سراييج (ص 9 وص 161)، خورخي لويس بورخيس، نيتشه ، بيكاسو، رودان (27 وص 57)، أوسكار وايلد (ص 37- 188)، جاك بريل ص (ص42 وص 80 وص 162)، رونيه شار (ص 49)، سير ويليام أوسلير ص: 37، 118، كاميل كلوبيل عشيقة النحات ، رودان (ص57)، أبقراط وقسمه ص 61، عبد القادر الراشدي ومعزوفة رقصة الأطلس (ص 86 )، رسول حمزاتوف (ص 100)، الشاعر لويس غارثيا مونطيرو (ص136)، نجاة الصغيرة (137)، نزار قباني (ص 144)، الكاتب فريدريك بيكبيدر (ص 152)، عبد المعطي حجازي(ص154)، غارسيا لوركا (ص 157)، محمد عبد الوهاب (159)، خوصي أنخيل بالنطي (ص165).
    وتسمح متابعة أسماء هذه الشخصيات يتبين انتمائها إلى عوالم الشعر والتحليل النفسي والنحت والفلسفة والموسيقى والكتابة والعزف والغناء، ويكون حضور أسماءها مبررا أو ذريعة ليشتغل خطاب الحكاية بالمشاهد والاستشهادات ولإعلان المعرفة التي تملكها أسماء الغريب أو وحيد الكامل بهذه العوالم المعرفية والفنية، ولنقل هذه المعرفة إلى القارئ الضمني والمفترض بتعبير إيزر. وقد نضيف إلى سابق الشخصيات شخصيات لا تحيل على أشخاص بأعينهم وإنما ترجع إلى النسق الثقافي في العام ومنها اعتقالات أزمنة الرصاص والغبار والخطاب السياسي لليسار الجديد (منظمة إلى الأمام) ، دواوين وحيد الكامل، كتاب "شفاء القلب" وهو لمحلل نفساني عانى من مرض عضال واستطاع أن ينتصر عليه، فأسس نظرية مفادها أن ابتعاد الانسان عما يشكل جوهره وهويته يحدث خللا في توازنه، فيأتي المرض كناقوس الخطر لينبهه، وينضاف إلى ذلك ويعضّده الإرجاع إلى الخطاب الثقافي في أوربا السبعينيات: نضالات الحركة النسائية، حركة التحرر الجنسي، الوعي السياسي المقترن بالوعي الفلسفي .
  5. وجود شخصيات ذات وظيفة دينية وأسطورية أو ميثولوجية، أي شخصيات تحيل في مستوى الخطاب أو المنطوق السردي على عوالم دينية أو خرافية عجائبية: المتصوف ، الشيطان (ص 65- 134)، المسيح (ص65)، سان فلانتين "الراهب الذي ناضل من أجل العشق والعشاق" ، فينوس (ص 119)، الملاك (147)... ومهما بلغت صلابة هذا التصنيف ووجاهته ودقته التفصيلية، فإنه لا يكشف عن الجانب الأهم ممثلا في العلاقات بين شخصيات رواية لحظات لا غير؛ إذ إن هذا النص الروائي بُنيَ على شبكة من علاقات التكامل والتعارض والتوازي؛ وهي أوضاع من العلاقات يستحيل فهمها بكيفية ملائمة مالم يدرجها القارئ ضمن المعنى العام الذي يراه مناسبا للرواية، على أن القارئ ملزم كذلك بالحذر من بعض الأساليب المستخدمة لتحريف انتباهه وتعتيم رؤيته لعالم المعنى في الرواية. ومن الموائم وضع كل ذلك ضمن شبكة تامة ومنسجمة من العلاقات، ولا شك أن القيام بوصف شكلي أو شكلاني لا يمكن أن يؤدي الغرض المطلوب. لذلك، فمن المناسب تماما النظر في شبكة علاقات رواية لحظات لا غير ضمن التصور العام الذي انطلقت منه هذه القراءة. واعتبارا لعلاقات التكامل والتوازي والتعارض بين شخصيات لحظات لا غير، في الإمكان التشديد على أن القارئ معني أساسا بتركيز الانتباه على شخصيتي أسماء الغريب ووحيد الكامل بصفتهما محور البناء الروائي وناظم العلاقات بين مكونات مجتمع الرواية، ولأنهما يمثلان أدوارا متعددة: إذ إن أسماء الغريب هي الساردة والطبيبة والعشيقة والزوجة والكاتبة والشاعرة، هي امرأة التي ضحت بالطب على مذبح العشق ثم الزواج، وتحررت من ارغامات قَسم أبقراط لفائدة الشعر والكتابة، وقاومت الموت في سبيل الحياة؛ أما وحيد الكامل فهو الأستاذ الجامعي المحاضر والشاعر والمكتئب العليل وزبون الطبيبة وعشيقها ثم زوجها وفقيدها الذي ترمَّلت بعده. وحيد الكامل حالة وجودية خاصة لا نَعْدِمُ لها أشباها ونظائر في الرواية العربية عموما، وفي رواية نجيب محفوظ خصوصا، وضمن سطور رواية الشحاذ بكيفية أخص، وسيكون من الطريف المقارنة بين شخصيتي عمر الحمزاوي ووحيد الكامل: ذلك أن شحاذ نجيب محفوظ الذي يشخص عمر الحمزاوي تَعِب من العمل والزواج والراحة وراح يبحث عن النشوة المستعصية والمُطْلَقة؛ أما وحيد فاتحة مرشيد، فقد صيغت طينته من تعب وجودي شامل وعميق. "تعب الكائن من الحياة، من الآخر، من الجمال، من القبح، من الفرح، من الحزن، وحتى من الحب والشعر" . حالة الملل التي دفعت عمر الحمزاوي إلى الإجازة والحب والتسكع في الملاهي الليلية وفوق صدور الغوالي، ثم إلى العزلة أخيرا، هي ذات الحالة التي دفعت وحيد الكامل إلى الإكتئاب ومحاولة الانتحار. عمر الحمزاوي عاد من عزلته خائبا، أما وحيد الكامل فلم يذهب في العزلة بل نحو الاجتماع عبر الاقتران بأسماء الغريب، وانضاف إلى معاناته الوجودية سرطان الرئة الذي وضع حدا لحياته ومعاناته، ملل الرجلين ترجمة شخصية لما نطق به الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى: "سأمت تكاليف الحياة..."، وما جأر به شاعر معرة النعمان: "تعبٌ كلها الحياة فما أعجب وإلا من راغب في زيادة". عمرى الحمزاوي مثقف ومحامي وشاعر وشيوعي سابق، ووحيد الكامل مثقف وأستاذ جامعي وشاعر ومناضل سابق في صفوف اليسار الجديد: منظمة إلى الأمام، ثم مناضلا بعد ذلك في سبيل الحرية وحقوق الإنسان: حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية الإبداع والحق في الاختلاف . عمر الحمزاوي ووحيد الكامل مثقفان راديكاليان سوداويان مزيج من يأس الجنون وجنون اليأس. حالتان من التدَرُّن البورجوازي الصغير، عمر نتاج الزمن الناصري، أما وحيد الكامل فهو نتاج مغرب الجمر والرصاص والغبار، مغرب السبعينات.
    إنهما حالتان تُنَمْذِجان وضع المثقف في ظل الدولة الكليانية. المتماثلات بين الرجلين مذهلة، وقد تغري بمقارنات أخرى؛ يكفي هنا استحضار أستاذي الفلسفة والأدب مهدي جوادي ومهيار الباهلي، ضمن رواية حيدر حيدر: وليمة لأعشاب البحر –نشيد الموت- ولن تكون هذه المقارنات غير ذات جدوى، خاصة أنها تفتح أفق القراءة والتحليل على موضوع يتطلب النظر والإنجاز: المثقف والسلطة في ظل الأنظمة الكليانية؛ أي تشخيص الرواية العربية لوضعية المثقف الراديكالي في سياق أنظمة سياسية استبدادية نتجت عن انجراف تاريخي في حركة التحرر الوطني العربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملاحظة: حذفت الهوامش لضرورات النشر.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم